رسالة أنيس النقّاش إلى “حزب الله” و”محور المقاومة”

بقلم مايكل يونغ*

أحياناً، لا ينصت المرء إلّا حينما يَنطُقُ أقرب المقرّبين إليه الحقيقة المُرّة. فبعد وفاة أنيس النقاش أخيراً، تداول اللبنانيون مقطع فيديو (يُمكن مشاهدته أعلاه) من مقابلة أجرتها معه قناة الميادين الموالية لإيران، يُعبّر خلاله بوضوح عن أن الأزمة المالية والاقتصادية التي يعانيها لبنان تؤثّر في “محور المقاومة”، أي بشكل أساس في “حزب الله”، كما أيضاً في سوريا وإيران.

قال النقاش في المقابلة: “لم يعد مقبولاً بتاتاً أن نفصل الملفات الداخلية ]اللبنانية[ عن ملفات “محور المقاومة” والصراع مع العدو الصهيوني… لم يعد مقبولًا أن نأتي ونقول لم نكن ندري ما هو الوضع المالي في لبنان لأن هذه ليست مهمة المقاومة. [وذلك[ لأن الأمن القومي والوطني ليس محصوراً بالسلاح وبالدفاع بالسلاح. تعريفه […] يبدأ بالتعليم والاقتصاد والزراعة والصحة، والعمل العسكري جزءٌ أساس منه ولكنه لا يكفي للدفاع عن الوطن”.

يملك أنيس النقاش إرثاً ثقيلاً كمشاركٍ في عملية احتجاز وزراء النفط للدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط (الأوبك) في فيينا في العام 1975 والتي نظّمها وديع حدّاد، رئيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – العمليات الخارجية. ووفقاً لما قاله النقاش في مقابلة أجراها معه الصحافي غسان شربل (رئيس تحرير “الشرق الأوسط” حالياً)  في العام 2008، أقام لاحقاً علاقات مع إيرانيين مُعارضين لنظام الشاه، في ظل التعاون مع القيادي الراحل في منظمة التحرير الفلسطينية خليل الوزير في السبعينيات الفائتة. قال النقاش إنه هو من اقترح تأسيس قوات الحرس الثوري لحماية مكاسب الثورة الإيرانية ومقاومة حدوث أي عملية انقلابية على يد الجيش، وذلك بعد حديث دار في منزله مع جلال الدين فارسي، الذي كان ينتمي إلى الجناح الخميني في المعارضة الإيرانية وأصبح لاحقًا ممثّل حركة “فتح” في إيران، وترشّح للرئاسة في العام 1980  ثم انسحب من السباق الرئاسي.

من هذا المنطلق، لا يُمكن فهم كلام النقاش إلّا كنصيحة صادقة من مناصر بارز ل”حزب الله” وإيران. لكن ما قاله مُحزنٌ للغاية، إذ ألمح إلى تقويض مبدأ “المقاومة” في خضم التدهور الاقتصادي الذي يشهده لبنان. وأضاف أن فعالية المقاومة ستضعف ما لم يتصدَّ الحزب للإنهيار الاقتصادي، ولفساد الطبقة السياسية، ويُوضّح حيثيات انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020.

كلُّ مَن يعيش في لبنان سيتّفق حكماً مع تصريحات النقاش. فالفقر بات مُنتشراً في البلاد على نطاق واسع، وبلغ السخط الشعبي حداً غير مسبوق، بحيث لا يبدو وارداً اليوم أن “حزب الله” قد يُخاطر ويخوض مواجهة مع إسرائيل. فلا شكّ أن الرد الإسرائيلي سيأتي قوياً، ويُدمّر قرى ومدناً وبنى تحتية اقتصادية. وستُواجه الطائفة الشيعية خصوصاً نزوحاً هائلاً، إذ قد يُحاول أكثر من مليون شخص اللجوء إلى مناطق أكثر أمناً. وحين تنتهي الحرب، لن يتوفر سوى القليل من الأموال الخارجية لإعادة إعمار البلاد، وأقل حتى لإعمار الأحياء والبلدات المُدَمّرة في المناطق الشيعية. وسيتفاقم الاستياء تجاه “حزب الله” في مختلف أرجاء لبنان، مُسبًّباً ردود فعل عنيفة قد يواجه الحزب صعوبة في احتوائها.

من جهتهم، يحلم خصوم “حزب الله” بحلول مثل هذه النتيجة. والمشكلة هي أن حجم الدمار والمُعاناة سيكون مهولاً، وقد لا تتعافى منه البلاد، ما سيؤدي إلى كارثة جديدة في المتوسط، تُخلّف تداعيات كبيرة على الاستقرار الإقليمي. يُضاف إلى ذلك أن تشرذم لبنان سيُسرّع وتائر تشرذم سوريا، ما يُلقي بظلاله على إيران وروسيا اللتين استثمرتا الكثير هناك وتكبّدتا خسائر في الأرواح والأموال على مدى سنوات للحفاظ على حكم الرئيس بشار الأسد.

لهذا السبب، لم يكتفِ النقاش بتوجيه تحذيره إلى “حزب الله” فحسب، بل شمل “محور المقاومة” ككل. لكن، هل سيلقى ذلك آذاناً صاغية في صفوف الحزب؟ يُشير سلوك “حزب الله” في الأشهر الأخيرة أنه عالقٌ بين أولويتَين مُتناقضتَين تحدّان من قدرته على التفاعل كما يجب مع تصريحات النقاش.

بدا جليّاً في الأشهر القليلة الماضية أن “حزب الله” غير مُستعد لإرغام حليفيه رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل على تسهيل عملية تأليف حكومة جديدة بقيادة رئيس الوزراء المكلّف سعد الحريري. لكن جميع المؤشّرات تُظهر رغبة “حزب الله” في تشكيل حكومة لسببين: أولاً، يتنامى الاستياء في أوساط الطائفة الشيعية على وقع تفاقم الأزمة الاقتصادية في ظل حكومة تصريف الأعمال الراهنة والإنهيار المُتسارع للّيرة؛ وثانياً، يبدو أن قدرة الحزب على حفظ الأمن آخذة في التراجع، حتى في المناطق التي يُسيطر عليها، بالتزامن مع ارتفاع معدلات الجرائم في ضاحية بيروت الجنوبية التي يُهيمن عليها الحزب، وتكاثر الإشتباكات بين العشائر المنفلتة، والتي باتت تحدث بوتيرة أسبوعبة.

في غضون ذلك، يدفع السياق الإقليمي “حزب الله” إلى التروّي في اتخاذ أي خطوات محلية قد تُبعِدُ حلفاءه عنه. فإحجامه عن الضغط على باسيل وعون لوقف عرقلة تأليف الحكومة نابعٌ من خشيته أن تُصبح الحرب مع إسرائيل لا مفرّ منها في حال تدهور الوضع الإقليمي بين إيران من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى. لذا، يحتاج الحزب إلى الحفاظ على تحالفاته القائمة لتجنّب عزلته، وإلى الإبقاء على صلاحيات رئيس الجمهورية تجاه السلطة التشريعية.

لا شكّ في أن التحذير الذي وجّهه النقاش ينطبق على هذه المرحلة: ف”حزب الله”، من خلال فشله في تجاوز معضلته، يُسرّع وتيرة التدهور الاجتماعي والاقتصادي، ويُفقد مبدأ “المقاومة” معناه. وهكذا، يبدو عالقاً بين إما عدم الوفاء بالتزاماته تجاه إيران، أو إثارة ردود فعل محلية ستشكّل تهديداً وجودياً له في حال التورّط في حربٍ مع إسرائيل. لذا، من المُفيد أحياناً أن يأخذ المرء بنصيحة من يريدون له الخير.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • عُرِّبَ هذا المقال من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى