عبقرية دوغا في 10 لوحات (2 من 2)

جلسة في المقهى

هنري زغيب*

هل يمكن أَن تختصر رسامًا مبدعًا عشرُ لوحات؟ أَو شاعرًا مبدعًا عشرُ قصائد؟ أَو موسيقيًّا مبدعًا عشرٌ من تآليفه؟ أَغلب الظن: لا، والأَصعب أَن يختار هو عشرة أَعمال تختصر نتاجه.

غير أَن الباحث أَو الناقد أَو الدارس أَو مؤَرخ الفن، يمكنه – ولو بمقاربة غير دقيقة – أَن يقطف من تراثِ مبدعٍ خالدٍ عشْرةَ أَعمالٍ إِن لم تختصره بدقَّةٍ فهي تُضيء على محطات رئيسَةٍ من مسيرته.

هو هذا القصد من هذا المقال في جُزءَين عن الرسام الفرنسي المبدع إِدغار دوغا Degas (1834-1917).

مرَّت في الجزء الأَول منه خمسُ لوحات وهنا الخمسُ الباقية.

  1. راقصتا باليه تتمرَّنان (1877)

مع أَنَّ لدوغا صلات أُسلوبية وشكلية ومضمونية مع الانطباعيين، لم يكن يعتبر أَنه من تيارهم. فهو يرى في أَعماله ابتعادًا عن المباشَرَة التي طبَعت أَعمالهم. ومع ذلك، شاء ذلك أَم نفاه، كانت في لوحاته مباشَرة في الأَداء، إِنما مع بعض الاستثناءات في التفاصيل. فعوض أَن يرسم خارجًا في الطبيعة، كان يرسم في محترفه، ويطلب إِلى مَن يرسمهم أَن يجلسوا أَمامه ولو مرات عدة وأَحيانًا لفترات طويلة في المرة الواحدة.

وحدَث في النصف الآخر من القرن التاسع عشر أَن دخلَت إِلى أُوروبا أَعمال من الفن الياباني (مواضيع شعبية، بعضُها مرسوم على الخشب)، راح دوغا يهتم بجمْعها وتأَثر بتقْنيتها. وفي هذه اللوحة (“راقصتا باليه تتمرَّنان”)، أَفسح دوغا مساحة لافتة للأَرض (على عكس ما كان رائجًا في كلاسيكيات عصره) ليُثْبِتَ أَن للمساحة الخالية جَمالياها، وهو ما دعا الشاعر الفرنسي الكبير بول فاليري إِلى امتداح دوغا وأَعماله تلك. ويبدو الأُسلوب الياباني واضحًا في طريقة رسم الجدار وزاوية ميَلان الراقصتين.

  1. جلسة في المقهى (1875)

لأَن دوغا كان يصر على تسمية رسمه بـ”الواقعي” لا “الانطباعي”، راح يبحث في مواضيع لوحاته عن اللقطات المدينية التي تُظهر واقع الباريسيين. وعلى عكس المرح والغبطة والفرح في لوحات رنوار، يبدو الناس في لوحات دوغا على بؤْس وحزن وكآبة. وفي لوحة “جلسة في مقهى” رجل وامرأَة جالسان في صمت كثيف، وعلى محيا المرأَة حزن عميق. ولهذا اللوحة عنوان آخر: “محتَسُو الأَبسنت”، وهو مشروبٌ كُحُوليٌّ مُسْكِر كان شعبيًّا عصرئذٍ ويودي إِلى السُكْر الشديد. وتبدو زجاجة الأَبسنت على الطاولة أَمام الرجل (وهو الرسام والحفار مارسُلان ديبوتين) والمرأَة (وهي الممثلة المسرحية). ولاقت هذه اللوحة كذلك إِعجاب النُقاد في معرض باريس 1876 للانطباعيين.

امرأَة تكوي
  1. امرأَة تكوي (1876)

بين مواضيع الحياة اليومية التي عمل عليها دوغا: نساء في أَعمالهنّ البيتية، كالكي والغسيل والخياطة وصناعة القبَّعات، وكان يلفت دوغا منظرُهُنَّ وهنَّ يعملْنَ ساعاتٍ طويلةً نهارًا، وكنَّ من أَكثر الطبقات فقرًا في بيئَتهنَّ، ما كان يدفع ببعضهنَّ إِلى مزاولة الدعارة لكسْب العيش، وهي ناحية مؤْسفة خفية كانت لدى عدد كبير من النساء في تلك الحقبة من القرن التاسع عشر.

دخان في فضاء الطبيعة
  1. دخان في فضاء الطبيعة (1890)

إِلى اهتمامه بالمناظر المدينية وقلَّة اهتمامه بالمشاهد خارج محترفه، زاول دوغا بعض الرسم خارجًا في الطبيعة، كهذه اللوحة التي يتصاعد في خلفيَّتها الدخانُ الأَسود. وإِضافة إِلى انضوائها في التيار الانطباعي، تتميز هذه اللوحة بتقْنية خاصة استعمل لها دوغا الباستِل على مُسَطَّح صلب وضغَط عليه قبل نقل اللوحة إِلى الورق.

بعد الحمَّام
  1. بعد الحمَّام (1895)

من مواضيع دوغا التي أَثارت جدلًا في عصره: النساء المستحمَّات. كانت مواضيع صادمة فضائحية لأَبناء جيله، لأَن المرأَة العارية في اللوحات الفنية كانت مقتصرة فقط على الآلهات في الميثولوجيا. لكن المرأَة في لوحة دوغا “بعد الحمَّام” بعيدة كليًّا عن شخصية المرأَة الميثولوجية، بل هي امرأَة بشرية عادية في غرفة حمّام تتصرف وتستدير بشكل طبيعي. وكان دوغا في عصره متَّهَمًا بكُرهه النساء. ولذا كان يرسمهنَّ من ظهورهنَّ كي لا يُظهر أَجسادهن من وجوههنَّ وسائر الجسد قبالة الناظر إِلى اللوحة، مع ما يرغب هذا الأَخير أَن يرى من مفاتن في المرأَة العارية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى