أوروبا أمام تحدٍّ جديد: ندرة المياه صارت مشكلة حقيقية
مع تزايد ميل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى خفض نفقات البنية التحتية لتغطية نفقات الدفاع الأعلى، من المرجح أن تشهد السنوات المقبلة توسُّعًا سريعًا وحتميًا لمناطق ندرة المياه في جميع أنحاء الاتحاد.

ميشال مظلوم*
كشفت أحدث البيانات المُتاحة عن حالةِ شبكةِ المياه في أوروبا، والتي نشرها أخيرًا مكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات)، عن اتجاهاتٍ مُقلقة بشأنِ مرونةِ إمداداتِ المياه في القارة العجوز مُستقبلًا. تُؤثّرُ مشكلةُ ندرة المياه، التي كانت تقتصر تقليديًا على جنوب أوروبا، الآن في 34% من سكان الاتحاد الأوروبي وما يقرب من 40% من مساحة أراضيه. ومع التوقعات المُفيدة بأنَّ زيادة استهلاك الصناعات الحيوية ستكون ثلاثة أضعاف بحلول العام 2030، تُصبح ندرة المياه بسرعة أحد أكثر التحديات إلحاحًا التي تواجه الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء.
هناكَ عددٌ من العوامل الرئيسة التي تُساهم في أزمة المياه الحالية في أوروبا، أبرزها وأكثرها إلحاحًا هو تغيُّرُ المناخ. أوروبا هي بالفعل أسرع قارة في العالم ارتفاعًا في درجات الحرارة، وقد سجّلت أشد فصول الصيف حرارة على الإطلاق في العام 2022. ومع تزايُدِ آثار تغيُّر المناخ –حيث تمَّ تجاوزُ الحدِّ الأقصى للاحتباسِ الحراري العالمي البالغ 1.5 درجة مئوية، المُتَّفَق عليه في قمة باريس للمناخ في العام 2015، على مدى فترة 12 شهرًا كاملة لأول مرة في العام 2023– توسّعت المناطق المتضرّرة من الجفاف شمالًا، حيث تأثرت ما لا يقل عن 15 دولة عضو، بما فيها ألمانيا ورومانيا وبلغاريا وفرنسا، بندرة المياه الموسمية.
التحدّي الثاني، الأكثر بساطة، الذي يواجه إمدادات مياه الشرب في أوروبا هو الفشل المُزمِن في الاستثمار في شبكات الأنابيب القديمة، مما يتسبّب في فقدان القارة ما يصل إلى 25% من إجمالي إمداداتها من المياه العذبة بسبب تسرُّباتٍ في النظام. تتفاوت معدلات التسرُّب بشكلٍ كبير بين الدول الأعضاء، من 61% في بلغاريا إلى 5% في هولندا، وتُكلّفُ الشركات الأوروبية ما يقدر بنحو 80 مليار يورو سنويًا.
تأتي تحدّياتُ تَغيُّر المناخ وانهيار البنية التحتية للمياه في وقتٍ يشهدُ استهلاكُ المياه العالمي ارتفاعًا هائلًا. خلصت دراسة حديثة أجرتها “ناشيونال جيوغرافيك” إلى أنَّ البشر الآن “يستهلكون ثمانية أضعاف [الماء] مما كانوا يستهلكونه قبل قرن”، وهو رقمٌ مُرَشَّحٌ للارتفاع في ظلِّ الطلبِ المتزايد، ولا سيما من قطاع التكنولوجيا. اعتبارًا من العام 2024، كانت أوروبا موطنًا لحوالي 1200 مركز بيانات، بزيادة سنوية تبلغ حوالي 20%، ويمكننا توقع “موجة هائلة من الطلب على الذكاء الاصطناعي من الجيل التالي” في جميع أنحاء أوروبا خلال الأشهر الـ12 المقبلة، وفقًا لستيفن بيرد، أخصائي مراكز البيانات في شركة “نايت فرانك” للاستشارات العقارية.
سيتطلَّبُ ذلك توسُّعًا هائلًا في مراكز البيانات التي تُعاني من ندرة المياه، والتي يُقدِّرُ أرمان شهابي، الباحث العلمي في مختبر لورانس بيركلي الوطني، أنها تستهلك في المتوسط ”حوالي 300 ألف غالون من المياه يوميًا، أو ما يعادل استهلاك 1000 أسرة أميركية”. في المناطق التي تُعاني من ندرة المياه في الاتحاد الأوروبي، يواجه إنشاءُ مراكز البيانات مُعارضةً مُتزايدة من السكان المحليين والمزارعين الذين يخشون إعطاء الأولوية لاحتياجات شركات التكنولوجيا الكبرى ذات الثروات الطائلة على حسابهم.
أحد هذه الأماكن هو “تالافيرا دي لا رينا” (Talavera de la Reina)، وهي مدينة إسبانية صغيرة تقع في منطقة “كاستيا لا مانشا” المركزية ذاتية الحكم حيث تَوصّل شركة التكنولوجيا العملاقة “ميتا” أخيرًا إلى اتفاقٍ مع الحكومة الإقليمية لبناء مركز بيانات بقيمة مليار يورو مع استهلاكٍ مُتَوَقَّع يبلغ حوالي “665 مليون ليتر من المياه سنويًا”. وكما قالت أورورا غوميز، المتحدثة باسم “سحابتك تُجفّفُ نهري” (Your Cloud Dries Up My River)، وهي مجموعة محلية تشكّلت لمُعارضة المركز، بإيجاز: “الناس لا يُدرِكون كمية المياه التي تدخل في مشاهدة ميم قطة صغيرة”. أحد أسباب هذا النقص في الوعي هو الفشل الذريع لشركات التكنولوجيا في مراقبة استخدامها الخاص. لقد كشفَ استطلاعٌ أجرته شركة الاستشارات “أبتايم إنستيتيوت” (Uptime Institute) في العام 2022 أنَّ 39% فقط من مراكز البيانات تتبعت استخدامها للمياه بشكل صحيح، بانخفاض قدره 12 نقطة مئوية عن العام 2021. هذا النقصُ في الشفافية يزيد فقط من شكوك النشطاء مثل غوميز في أنَّ عمالقة التكنولوجيا لا يهتمّون كثيرًا بآثار أنشطتهم على المجتمعات المحلية. من المتوقع أن تتصاعَدَ هذه التوترات داخل الدول مع موافقة الحكومة الإسبانية، في محاولةٍ واضحة لتصبح عاصمة مراكز البيانات الأوروبية، على العديد من المقترحات الضخمة الأخرى المُقدَّمة من أمازون ومايكروسوفت.
كما إنَّ ندرةَ المياه صارت بشكلٍ متزايد مصدرًا للتوترات بين الدول، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير إلى حقيقةِ أنَّ حوالي 70 في المئة من مناطق مستجمعات المياه الأوروبية تشترك فيها الدول الأعضاء. فعلى سبيل المثال، اتهمت السلطات البرتغالية إسبانيا منذ فترة طويلة بسحب المياه بشكلٍ مفرط من نهر “تاغوس” المشترك من خلال بناءِ سدٍّ على الممر المائي لا يقل عن 51 مرة قبل أن يصل إلى البرتغال. وخلال موجات الجفاف القاسية في العام 2017، والتي هددت وجود نهر “تاغوس” ذاته، وُبِّخت الحكومة الإسبانية بسبب انتهاكاتٍ صارخة لتوجيهات الاتحاد الأوروبي بشأن تقاسُم المياه بين الدول. وبعد سنواتٍ من الخلاف، توصّلت إسبانيا والبرتغال أخيرًا إلى اتفاقٍ بشأن هذه القضية في أيلول (سبتمبر) من العام الماضي. ولكن كما تشير المحامية البيئية ماريا سوليداد غالييغو، فإنَّ إدارة إسبانيا لنهر “تاغوس” كانت دائما “مدفوعة بالاعتبارات الاقتصادية، وليس البيئية”، ومن المرجح أن تؤدّي العودة المحتملة للمحافظين المتشكّكين في المناخ في إسبانيا إلى السلطة بعد الانتخابات العامة المقبلة إلى تجدُّد الصراع على أكبر نهر في شبه الجزيرة الإيبيرية.
من ناحية أخرى، استجابةً لتحديات استدامة المياه المتزايدة، يُنهي الاتحاد الأوروبي حاليًا تفاصيل استراتيجيته الجديدة لمرونة المياه. صُممت الاستراتيجية لضمان “معالجة ندرة المياه”، وتعتزم البناء على مبادرات الحفاظ على المياه مثل “iMERMAID” و”AquaSPICE”، وتحسين معدل إعادة استخدام مياه الصرف الصحي الضئيل في الاتحاد والبالغ 2.4%.
في حين أنَّ هذه المبادرات قد تُحسّن الإمدادات بشكلٍ طفيف، إلّا أنَّ تطويرَ قطاعَي الطاقة والزراعة، اللذين يُمثّلان أكثر من نصف إجمالي استخراج المياه في جميع أنحاء الاتحاد، يبقى مفتاح التقدم السريع. ووفقًا لمنظمة “مياه أوروبا” (Water Europe)، فإنَّ إزالة الكربون تمامًا من إمدادات الطاقة في أوروبا ستؤدّي إلى انخفاضٍ هائلٍ في استخراج المياه بنسبة 38% بحلول العام 2050، مما يُظهر بوضوح “كيف يتوافق الأمن المائي مع أهداف الاستدامة الأوسع”. ومع ذلك، مع تهديد الأنظمة اليمينية المتشددة والمتطرّفة في بعض أكبر الدول الأعضاء المُنتِجة للطاقة المتجدِّدة في الاتحاد الأوروبي بعرقلة المزيد من التوسع، وفشل أهداف الاتحاد المتعلقة بالوصول إلى صافي انبعاثات صفري بحلول العام 2050 في تحقيقها، لا تزال فوائد استدامة المياه من التحوُّل في مجال الطاقة موضع شك.
لقد قطعت الزراعة خطوات كبيرة في كفاءة استخدام المياه على مرِّ السنين مع انخفاضٍ بنسبة 28 في المئة في الاستخدام منذ العام 1990، وفقًا لتقرير محكمة المُدَقِّقين الأوروبية لعام 2021. ولسوء الحظ، تباطأ التقدُّمُ بشكلٍ كبير منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حيث تُعَوِّضُ زيادةُ الإنتاج عن مكاسب الكفاءة، ولا تزال المسطّحات المائية الأوروبية “تتعرّضُ لضغطٍ كبير من استخراج المياه الزراعية”. قد تقلل التطورات التكنولوجية مثل التناضح العكسي من الاستخدام بشكلٍ طفيف، ولكن “الفيل الذي في الغرفة” هو نموذج الزراعة الذي يُركّزُ على الثروة الحيوانية بعنادٍ في الاتحاد الأوروبي. ووفقًا لـ”FoodUnfolded”، وهي منصة معلومات مُموَّلة من الاتحاد الأوروبي حول نظام الغذاء، فإنَّ إنتاجَ اللحوم يتطلّبُ ما يصل إلى 15 ضعفًا من المياه مقارنةً بالفواكه أو الخضراوات، ومع ذلك فإنَّ حوالي “82 في المئة من إعانات الزراعة في الاتحاد الأوروبي” لا تزال تذهب لدعم الأغذية القائمة على الحيوانات. بالإضافة إلى الآثار الضارة على التحوُّل الغذائي من خلال إعطاء الأولوية للمنتجات الحيوانية الثقيلة الانبعاثات، فإنَّ نموذَجَ الدعم يُمثّلُ استنزافًا كبيرًا لإمدادات مياه الشرب في الكتلة.
وفقًا لتقرير عالمي حديث حول المياه أصدرته منظمة “مشروع الكشف عن الكربون” (CDP) غير الربحية، فإنَّ “الأثر المالي المحتمل لمخاطر المياه على الشركات يشكل خمسة أضعاف أكثر من معالجتها”، مما يجعل الاستثمار الضخم في شبكة المياه الأوروبية خيارًا بديهيًا. ولكن مع تزايد ميل الدول الأعضاء إلى خفض نفقات البنية التحتية غير المبهرة لتغطية نفقات الدفاع الأعلى، من المرجح أن تشهد السنوات المقبلة توسعًا سريعًا وحتميًا لمناطق ندرة المياه في الاتحاد الأوروبي في جميع أنحائه.
- ميشال مظلوم هو صحافي لبناني من هيئة تحرير “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.