العراق: التحوُّل إلى الرعاية والحماية

مع ضعف إيران، تتبنّى قوات الحشد الشعبي العراقية استراتيجية جديدة للبقاء، حيث يمكنها بواسطتها تعويض التخلي عن انتمائها إلى “محور المقاومة” أو التقليل من شأنه، من خلال تعزيز نفوذها كمصدرٍ للرعاية وحماة للمجتمع الشيعي في العراق.

رئيس الوزراء محمد شياع السوداني: توافق مع فالح الفياض لهدف إنتخابي.

حارث حسن والفضل أحمد*

عملت الفصائل المسلحة العاملة تحت مظلة قوات الحشد الشعبي العراقية، بشكلٍ أساسي كأدواتٍ لتعزيز نفوذ التيار الإسلامي الشيعي، ومحاربة الجهاديين السنّة، ومعارضة المصالح الإقليمية الأميركية والإسرائيلية، ودَعمِ أجندات إيران في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

بصفتها ركيزة أساسية لما يُسمى “محور المقاومة”، نسّقت قوات الحشد الشعبي عملياتها بشكلٍ وثيق مع الجماعات المدعومة من إيران في لبنان واليمن، ومع بشار الأسد في سوريا حتى سقوطه. داخل العراق، أعاقت المبادرات العراقية لتطبيع أو تعزيز العلاقات مع الدول الغربية ودول الخليج العربية، أو لإبعاد العراق عن النفوذ الإيراني. وقد تجلّى ذلك في هجمات قوات الحشد الشعبي المتكررة على المنشآت الديبلوماسية أو القوات العسكرية الأميركية، بالإضافة إلى عرقلتها للاستثمارات الخليجية في وسط وجنوب العراق. في الواقع، من خلال استغلال الوضع القانوني لقوات الحشد الشعبي كمؤسسة حكومية عراقية رسمية ــحيث تدفع الدولة رواتبها وميزانيتهاــ خلقت فصائلها قوة سياسية عسكرية تُعارضُ وتمنع أيَّ تطوّرات عراقية تُعتَبَرُ ضارةً بمصالح إيران.

مع ذلك، فإنَّ الضغط الأميركي والإسرائيلي المتزايد، إلى جانب التهديدات الصريحة، الإسرائيلية في الغالب، بالعمل العسكري ضد تلك الفصائل العراقية، قد قلّلَ من تنسيقها مع الجماعات الأخرى المدعومة من إيران مثل “حزب الله” في لبنان أو “أنصار الله” في اليمن. توقفت جميع العمليات العسكرية لقوات الحشد الشعبي بعدما قدّمت إسرائيل طلبًا رسميًا إلى الأمم المتحدة لزيادة الضغط الدولي على العراق لوقف الهجمات التي تُشَنُّ من أراضيه. حتى التصريحات العلنية اليومية لقادة الميليشيات، والتي كانت شائعة في السنوات السابقة، توقّفت. وقد تجلّى هذا بشكلٍ خاص بعد إعادة الرئيس دونالد ترامب فرض حملة “الضغط الأقصى” على إيران. وهذا يستلزمُ فَرضَ عقوباتٍ على الكيانات التي تساعد على تهريب النفط الإيراني أو تدعم الجهات التابعة للحرس الثوري الإسلامي الإيراني، مع التركيز بشكلٍ خاص على عرقلة الجهود الإيرانية للالتفاف على العقوبات من خلال النظام المالي العراقي. وقد أثّرت توجيهات ترامب الرئاسية، المصحوبة برسائل خاصة سلمها كبار المسؤولين الأميركيين إلى رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، على الحضور العام لقوات الحشد الشعبي. في مواجهة تهديدات عسكرية واقتصادية متزايدة تُهدد بقاءها، وتحت تأثير الهزيمة العسكرية ل”حزب الله” وانهيار نظام الأسد، تُغيّرُ الفصائل المسلحة التابعة للحشد الشعبي سلوكها. فقد تحوّل هدفها الرئيس نحو الحفاظ على وجود قوات الحشد الشعبي وتجنُّب حلّها ودمج قواتها قسرًا في الجيش العراقي. عمليًا، لم يقتصر هذا على وقف هجماتها العسكرية ضد الأهداف الأميركية أو الإسرائيلية فحسب، بل شمل أيضًا تخفيف حدة خطابها المناهض لأميركا والتخلي تدريجًا عن مبدَإِ وحدة الساحات الذي يتبناه “محور المقاومة”.

من الجدير بالذكر أنَّ الموارد المُتاحة من خلال قوات الحشد الشعبي تتجاوز بكثير تلك التي توفرها إيران. بلغت ميزانية قوات الحشد الشعبي في العام 2024 وحده حوالي 3.4 مليارات دولار، متجاوزةً إجمالي إيرادات الدولة في لبنان (3.3 مليارات دولار، وفقًا لميزانية 2024) واليمن (2.2 ملياري دولار، بناءً على أحدث ميزانية منشورة لليمن). وعلى عكس المؤسّسات الحكومية العراقية الأخرى، تفتقر ميزانية قوات الحشد الشعبي إلى التدقيق والرقابة الفعَّالَين. علاوةً على ذلك، لا تمتلك الحكومة العراقية سجلّات دقيقة وقابلة للتحقّق لأفراد قوات الحشد الشعبي، بل تكتفي بإدراج حوالي 238 ألف منصب على الورق. وقد سمح هذا الغياب للمساءلة المالية للفصائل المسلحة في قوات الحشد الشعبي بتقاسم الموارد وإنشاء شبكات محسوبية واسعة النطاق أثرت بشكل كبير في النتائج الانتخابية وساعدت على الحفاظ على نفوذها السياسي. وهذه جائزة كبيرة يصعب التخلّي عنها، خصوصًا إذا كان شنُّ هجمات ضد القوات الأميركية وإسرائيل قد يؤدي إلى مواجهة من المرجح أن تخسرها قوات الحشد الشعبي، بالنظر إلى ما حدث ل”حزب الله” والضعف الواضح للموقف الإيراني. لذلك، فإنَّ بقاء قوات الحشد الشعبي بعيدًا من الأضواء بدون التنازل عن قدراتها المالية والعسكرية قد يُمثل استراتيجيةً ناجعةً للحفاظ على الذات. ويتماشى هذا مع ما أسماه محور المقاومة “الصبر الاستراتيجي”، القائم على توقع انشغال الولايات المتحدة بأزمات أخرى، أو إدراكها أنَّ ولاية إدارة ترامب ستنتهي في نهاية المطاف.

مع تضاؤل ​​الدور الإقليمي الخارجي لفصائل قوات الحشد الشعبي، طفت على السطح خلافاتها الداخلية حول تخصيص الموارد والقيادة. جرت العادة أن تُدير إيران مثل هذه الخلافات أو تتوسّط فيها. إلّا أنَّ قدرتها على القيام بذلك اليوم قد تآكلت بسبب تراجع نفوذها الإقليمي، وأيضًا بسبب طبيعة المصالح الفصائلية المتنامية داخل العراق. على سبيل المثال، أيّدت عصائب أهل الحق، بقيادة قيس الخزعلي، أخيرًا تشريعًا يُنظّم شروط خدمة قوات الحشد الشعبي وشروط تقاعدها. تهدف هذه المبادرة التشريعية في المقام الأول إلى إقالة رئيس هيئة الحشد الشعبي، فالح الفياض، من خلال الدفع نحو تقاعده، إلى جانب نحو 400 من قادة الحشد الشعبي، وبالتالي تسهيل إعادة توزيع السلطة داخل المنظمة.

مع ذلك، نجح الفياض في عرقلة المقترح، من خلال اتفاقٍ، بحسب تقارير عدة متطابقة، انحاز بموجبه سياسيًا إلى الائتلاف الانتخابي لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني. ونتيجةً لذلك، صاغ مكتب رئيس الوزراء مشروعَ قانونٍ بديلًا، يقترح منح رتبة وزير لرئيس هيئة الحشد الشعبي، وثلاثة مناصب نواب وزير لمسؤولي الحشد الشعبي، وهي مناصب ذات سلطة كبيرة. وبالمقارنة، لا تُخصَّص مناصب نواب وزير لأجهزة أمنية عراقية أخرى، مثل قوات مكافحة الإرهاب أو جهاز الأمن الوطني، حيث يقتصر تكليف كبار المسؤولين فيها بمناصب مديرين عامين.

وَفّرَ التشريع الذي اقترحه رئيس الوزراء للفياض دعمًا سياسيًا، ولكنه كان أيضًا بمثابة إجراءٍ متوازن. فبترقية الفياض إلى رتبة وزير، أعفاه من التقاعد الإلزامي. علاوةً على ذلك، منح التشريع الجديد الفصائل المعارضة للفياض فرصةً لتقاسم السيطرة القانونية على هيئة الحشد الشعبي من خلال شغل مناصب نواب الوزير الثلاثة المُنشأة حديثًا، مما يُتيحُ لهم حريةً أكبر لتقاسم النفوذ معه. بهذه الطريقة، سعى السوداني إلى الإبقاء على الفياض -وهو حليف انتخابي رئيس- رئيسًا للحشد الشعبي إلى أجلٍ غير مسمّى، مع منحه في الوقت نفسه مناصب مؤثرة لمنافسيه السياسيين، وهو ما صُمِّمَ لاسترضائهم. وقد ضمنت هذه الخطوات قبولًا برلمانيًا واسعًا لتشريعاته.

تاريخيًا، بررت الميليشيات الإسلامية الشيعية العراقية وجودها من خلال التمسّك الإيديولوجي بمفهوم ولاية الفقيه. هذا المفهوم، الذي أحياه آية الله روح الله الخميني في إيران ويُجسّده اليوم آية الله علي خامنئي، يمنح فعليًا سلطة سياسية عليا لرجل دين كبير، أو فقيه، جامعًا بذلك السلطة السياسية والدينية العليا في شخص واحد. ومن خلال هذا التفسير، رسخت الفصائل العراقية نفسها في المشروع الثوري الإيراني مُغذِّيةً العداء للغرب.

مع ذلك، بدأت هذه الفصائل أخيرًا استبدالَ خطاب “محور المقاومة” بخطابٍ يتمحور حول صعود أحمد الشرع إلى السلطة في سوريا. وقد وفّر المشهد السياسي السوري المُتغيِّر لهذه الفصائل بديلًا إيديولوجيًا مناسبًا للنأي بنفسها عن طموحات إيران الإقليمية المتعثّرة، والاستفادة بدلًا من ذلك من مخاوف الشيعة العراقيين مع ظهور كيانٍ سياسي سني مرتبط بالجهاديين في سوريا، والذي يشترك معه العراق في حدودٍ تمتدُّ لنحو 600 كيلومتر. ومن خلال التضليل المُتعمَّد بشأن الوضع السوري والتلاعُب العام من قبل هذه الفصائل ووسائل الإعلام التابعة لها، إلى جانب ما يُنظَرُ إليه على أنه عجز الإدارة السورية الجديدة عن استيعاب الأقليات بشكلٍ كافٍ، تُصوِّرُ ميليشيات الحشد الشعبي نفسها الآن على أنها الحصن المنيع الوحيد للعراق في وجه الجهادية السنّية.

لا يهدفُ هذا السردُ المُصاغ بعناية إلى إضفاء الشرعية على استمرار وجود قوات الحشد الشعبي فحسب، بل يسعى أيضًا إلى توسيع نفوذها السياسي ومواردها المالية ونفوذها المؤسّسي. يعكس هذا السرد الديناميكيات الطبيعة المتعددة الجوانب لفصائل الحشد الشعبي، حيث يمكنها تعويض التخلي عن انتمائها إلى “محور المقاومة” أو التقليل من شأنه، من خلال تعزيز نفوذها كمصدرٍ للرعاية وحماة للمجتمع الشيعي.

  • حارث حسن هو زميل أول غير مقيم في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط، تركّز أبحاثه على العراق، والطائفية، وسياسات الهوية، والقوى الدينية، والعلاقة بين الدولة والمجتمع.
  • الفضل احمد هو كاتب وباحث سياسي تركز كتاباته على الشؤون العراقية، وبشكلٍ خاص التغييرات الاجتماعية والسياسية في مناطق وسط وجنوب العراق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى