تونس… إلى أي مأزق؟
بقلم عبد اللطيف الفراتي*
تحت وطأة الصدمة، إعتبرتُ أن الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي شمعةٌ مُضيئة لن تنطفئ. ومع ذهاب مفعول هول المفاجأة، وشعور اليتم الذي أصابني كما أصاب جانباً كبيراً من الشعب التونسي، حيث لم يتبيَّن لي وقتها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أخَذَت تتّضح معالم صورة داكنة ليس فيها مكان للون زاهٍ، ليس بسبب الحداد، ولكن نتيجة لليقظة بعد الغفلة، على الأقل على الصعيد الشخصي.
للذكرى، قبل الدور الثاني من الإنتخابات الرئاسية لسنة 2014 ، التي قادت قائد السبسي إلى منصب رئاسة الجمهورية، كتبتُ على مدوّنتي “الصواب” مقالاً بعنوان :” أصوّت للباجي مُكرَهاً لأني لا أثق في المرزوقي”. وللواقع لم يكن لي ولا لآخرين من حلّ، نظراً إلى طبيعة الإقتراع بالتصويت الشعبي العام المباشر لاختيار رئيس الجمهورية، ولم يكن المرشح الباجي قائد السبسي هو الأفضل بين الـ27 مرشحاً، على ما أذكر في الدورة الأولى، آنذاك، لكن تلك هي طبيعة الإنتخاب بالإقتراع العام على دورتين.
بدا قائد السبسي وقتها ورغم كل التحفظات مقبولاً لسببين في نظر الكثيرين:
أولهما أنه أوقف زحف النمط المجتمعي التراجعي للترويكا بمكوّناتها الثلاثة والذي لا يمتّ بصلةٍ لطبيعة المجتمع التونسي، الذي غادر ربقة التخلّف ودخل عوالم التنوير منذ عهد الملك أحمد باي سنة 1837، إقتداءً بالخديوي محمد علي في مصر، واستمراراً لخير الدين باشا، وفكر قاسم أمين ومحمد عبده انتظاراً للطاهر الحداد والحبيب بورقيبة ورفاقه.
وثانيهما أنه بشّر بحكمٍ عصري تنموي، (بعد سنوات من الحكم الثلاثي الفاشل للترويكا التي كانت تسعى إلى إقامة نظام مجتمعي متخلف)، حكم متخلّص من الكرة الحديدية الثقيلة التي كانت تكبّله، والمتمثلة في الديكتاتورية والتوتاليتارية لفترة ما قبل الثورة.
غير أن الخطوات الأولى لحكم مدني تحت رئاسة قائد السبسي خيّبت الآمال، فبدل اختيار رئيس حكومة مناسب قادر على تحريك السواكن، وإنجاز مرحلة النمو التي بشر بها البرنامج الاقتصادي الاجتماعي الذي أعده لحزب “نداء تونس” عدد من الإختصاصيين والخبراء، في مقدمتهم محمود بن رمضان وسليم شاكر، إلتجأ رئيس الجمهورية الجديد إلى رجل رغم نزاهته ووفائه للدولة، الحبيب الصيد وهو من خارج حزب “نداء تونس”، ليقود المرحلة التي لم يكن على قدر لمواجهة تحدياتها بعد سنوات الخراب الثلاث التي أعقبت الثورة، وبقدرة قادر فإن الحبيب الصيد على إخلاصه للرئيس رغم محدودية آفاقه كرجل اقتصاد وفعل، لم يُرضِ رئيس الدولة، وفقاً لما قيل في حينه، لأنه لم يكن طيّعاً في خدمة حافظ، الإبن المُدلّل لرئيس الدولة. ولعل المرء يجد بعض ما تردد عن ذلك في الكتاب التقيييمي الذي كتبه مدير الديوان في رئاسة الحكومة الطيب اليوسفي، فكان أن أُقيل رئيس الحكومة، على وقع انشقاقات داخل الحزب الحاكم “نداء تونس” الذي لم يحكم قط، واستجابة لنزوات الابن المدلل تمت الإستعاضة عن الحبيب الصيد، بوافد جديد على الحياة السياسية هو يوسف الشاهد، الذي كانت ميزته الوحيدة أنه نظّم مؤتمراً للحزب الحاكم، على مقاس ابن أبيه حافظ قائد السبسي، فنال جزاء على ذلك أن تبوأ رئاسة الحكومة، ولنذهب بالصراحة إلى منتهاها، لنقول أن لا شيء كان يؤهله لذلك إلا رضاء العائلة للخدمات الجليلة التي قدمها، بشق “نداء تونس” وشرذمته، إلى حد أدى إلى مغادرة كوادره الأكثر فاعلية.
غير أن الجرّة لا تسلم في كل مرة، فرئيس الحكومة الجديد أمام الرغبات غير المنطقية المتكررة والتي لا تُمكن الإستجابة لها من قبل العائلة، دخل في مواجهة بينه وبين حافظ قائد السبسي، فدفع أباه الرئيس إلى الدعوة لصرف رئيس الحكومة ما أوقع السلطة التنفيذية في حالة انشقاق، وقلّل من فاعلية عملها، والتي أصلاً كانت قليلة الفاعلية، وانصرافها برأسيها إلى مواجهة، لم تخدم البلاد التي تردت فيها الأوضاع خلال 9 سنوات من حكم غير رشيد، (لنقلها بصراحة)، وحَوكمة متدنية إن لم نقل منعدمة، وبدل الإنصراف لتنمية البلاد، باتت الطبقة الحاكمة تتقاذف التهم والضرب تحت الحزام، وكانت النتيجة إنهياراً إقتصادياً ـ إحتماعياً وحيرة عامة، إلى الدرجة التي بات فيها جزء من الشعب يتمنى العودة إلى زمن الديكتاتورية، وهو ما يفسر إرتقاء التجمعية السابقة عبير موسي، مع ما تمثله من ماضٍ كريه، إلى المراتب الأولى في نوايا التصويت قبل ظهور فقاعة نبيل القروي وقيس سعيد.
للواقع أن الذين سطّروا الدستور على هناته، والقانون الإنتخابي على ما يعتريه من نقائص، مضافاً إلى ذلك غياب المؤسسات الدستورية التي نص عليها دستور 2014، لم يتفطّنوا إلى الفخاخ الخطيرة التي تُعشّش في النصوص التأسيسية والتنظيمية القانونية، بحيث تسربت مظاهر لم تكن لتظهر لو وقعت الإستفادة من التجارب العالمية.
ومن هنا طغت ظاهرة ديماغوجية، حوّلت الإنتخابات الرئاسية إلى لعبة فولكلورية.
ولما كان إصلاح الأمر الأعوج بسرعة وبغير روية وليس في الوقت المناسب، فإن حركة “النهضة” وحزب “تحيا تونس”، الحزب المُصطَنع على عجل لرئيس الحكومة الشاهد، الذي تحوّل إلى خصم للباجي وابنه في تحالف مريب مع “النهضة”، أقدما على سن مشروع قانون يتفق فقهاء القانون الدستوري على عدم دستوريته ، فضلاً على أن توقيته غير أخلاقي في أدنى الإحتمالات. وهو مشروع مرره تحالف “النهضة” و”تحيا تونس” مع شتات من الأحزاب التي أصابها الهلع على مواقعها، وصادق عليه ـ ويا للغرابة ـ الجهاز الموقت للنظر في دستورية القوانين، بحيث أقصى ثلاثة أو أربعة أحزاب أو أشخاصاً متقدمين في نوايا التصويت، لا يستحقون أن يكون لهم مكان تحت الشمس، لولا غفلة المشرع التونسي الجديد الذي اهتم بالخصومات الفارغة، و لولا تحلل نصوص دستورية لم تتخذ حذرها الكافي من احتمالات السطو على الديموقراطية بالديموقراطية.
غير أن ما لم يدر في خلد الذين لجأوا إلى الإقصاء في الساعة الخامسة والعشرين، أي بعد الأوان، أن رئيس الدولة المتردّد على المستشفى العسكري، والذي لم تكن صحته ـ والله أعلم ـ على أحسن حال، وفي ما يقال من تحالف جديد وغير مستبعد بين نجل الرئيس حافظ قائد السبسي وبين نبيل القروي، النجم الساطع على مدى أيام قليلة مضت، باعتبار الأدوات التي استعملها والممجوجة أخلاقياً، دفع رئيس الدولة في أيامه الأخيرة إلى عدم توقيع النص المعروض عليه، وسقوط كل مطامح “النهضة” والنداء، أو ما بقي منه والأطراف الأخرى المتورطة في النص القانوني المصادق عليه، والحائز على موافقة الجهاز الموقت للنظر في دستورية القوانين .
كيف كان حال الرئيس عندما رفض التوقيع؟ ومَن هو الذي أعلن عن الرفض؟ ومَن ذا الذي يُمكن أن يعرف حقيقة ما حصل في الفترة الأخيرة من حياته قبل وفاته المفاجئة؟
كل تلك أسئلة تبقى واردة، والمهم فيها أنها أعادت إلى السباق الرئاسي مَن أُرِيدَ استبعادهم وما بعده، أي تأثيرات ذلك لاحقاً على الإنتخابات التشريعية، وحصول كل التشنجات القضائية والأمنية، التي لن تمنع أحداً من مواصلة ترشيح نفسه، ومَن يدري ربما الفوز بمنصب الرئاسة، خصوصاً مع ما يبدو عليه من دور الضحية والناس يحبون الضحايا.
وفي هذه الحالة يجد “تحيا تونس” و”النهضة” والتوابع نفسها خارج دائرة الحكم.
ما الذي ينتظر البلاد في هذه الحالة، وما ستسفر عنه هذه الانتخابات؟ هل سيكون محل وفاق وقبول، أم إننا سنكون جميعاً في مواجهة تطورات الله أعلم بمداها؟
ولعل الدرس الأكبر هو تحديد سن الترشح لرئاسة الجمهورية بـ70 أو على الأقصى 75 سنة؟
- عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية ومراسلاً لصحف ومجلات عربية عدة. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com