التَمَحوُرُ بعيداً من أميركا

يقوم اللاعبون الإقليميون والدوليون بتجميع ما يستطيعون من أوراق للانخراط في لعبةِ قوّة جديدة في الشرق الأوسط.

إجتماع عمّان بين وزراء الطاقة في لبنان، الأردن، سوريا ومصر: إعلان خارطة طريق لتصدير الغاز المصري عبر الأردن وسوريا إلى لبنان

مايكل يونغ *

اتّهَمَ الجمهوريون في الكونغرس الأميركي أخيراً إدارة جو بايدن بحجبِ تقريرٍ عن إمبراطورية “حزب الله” المالية. التقرير، الذي تعدّه وزارتا الخارجية والدفاع، هو أحد متطلبات قانون تعديلات منع التمويل الدولي ل”حزب الله” الذي صدر في العام 2018.

هذا التقرير مُهمٌّ للجمهوريين، وفقاً لمقالٍ نشرته صحيفة “واشنطن فري بيكون” (Washington Free Beacon) المحافظة، “فيما تدرس إدارة بايدن رفع العقوبات الاقتصادية عن لبنان الذي يسيطر عليه “حزب الله” في الوقت الذي تكافح البلاد أزمة نقدية هائلة”. وأشار النائب الجمهوري بات فالون، من ولاية تكساس، إلى أنه “بالإضافة إلى ذلك، فإن احتمال قيام هذه الإدارة بإنقاذ ورفع العقوبات عن لبنان هو مسرحية مباشرة من كتاب نيفيل تشامبرلين للسياسة الخارجية. “حزب الله” وحده هو المسؤول عن الخراب الاقتصادي للبنان”.

أثارت ملاحظات فالون أسئلة مثيرة للاهتمام، لأنه لا يوجد ما يشير إلى أن الولايات المتحدة قد فرضت عقوبات فعلية على لبنان. لقد فرضت بالتأكيد عقوبات على سياسيين لبنانيين وأعضاء من “حزب الله” والمرتبطين به، لكن لا توجد مؤشّرات، على سبيل المثال، على أن واشنطن ستُعرقل خطة إنقاذ صندوق النقد الدولي للبلاد. في الواقع، سعت إدارة بايدن أخيراً إلى مساعدة الجيش اللبناني، بينما كان أعضاء من الكونغرس الأميركي يزورون بيروت في أيلول (سبتمبر) الفائت لفحص طرق مساعدة البلاد. حتى أن أحد أعضاء الوفد، السيناتور ريتشارد بلومنتال، قال: “لن أستبعد أو أرفض فكرة خطة مارشال مُصغَّرة للبنان لأن مصالحنا الأمنية تعتمد عليه …”

هذه ليست اللغة التي يستخدمها المرء عادة للتحدّث عن بلد خاضعٍ لعقوبات. والأهم من ذلك، قالت مصادر في الكونغرس لصحيفة “واشنطن فري بيكون” إن رفض الإدارة الإفراج عن تقرير وزارة الخارجية والدفاع يلقى “تدقيقاً مُتزايداً من الكونغرس وسط تقارير منفصلة بأن إدارة بايدن مستعدة للتنازل عن العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظام الأسد في سوريا لتسهيل صفقة الطاقة مع لبنان”. وتنطوي الصفقة المعنية على إرسال الغاز الطبيعي المصري، عبر خط أنابيب، عبر الأردن وسوريا لتزويد محطة كهرباء دير عمار اللبنانية بالقرب من طرابلس. ويواجه لبنان انقطاعات منهكة في التيار الكهربائي وسط نقص الأموال والوقود، وستساعد الخطة على إنتاج الطاقة للاقتصاد المُتوقّف.

ومع ذلك، من أجل المضي قدماً في الخطة، ستحتاج الولايات المتحدة إلى إصدار إعفاءاتٍ ليس فقط للبنان ولكن أيضاً للأردن، حتى لا يواجه البلدان عقوبات بموجب قانون قيصر، الذي صدر لمعاقبة النظام السوري على جرائمه ضد شعبه. لذلك، كان الكشف عن خطة الغاز التي أعلنتها السفيرة الأميركية في بيروت، دوروثي شيّا، في آب (أغسطس) الفائت. وقد جاء طلب أوّلي للسماح بذلك من العاهل الأردني الملك عبد الله عندما زار واشنطن في تموز (يوليو). كما أشار رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري إلى خطة الغاز بعد أن التقى بمسؤولين مصريين في القاهرة في 16 تموز (يوليو). وهذا يشير إلى أن مصر والأردن كانا على الموجة نفسها بالنسبة إلى لبنان، ويبدو أنهما نجحا في إقناع إدارة بايدن بدعم نهجهما.

في حين أن العناوين الرئيسة هي أن الخطة ستزوّد لبنان الذي يقاسي ويُعاني بالغاز، فإن القصة الحقيقية هي أن مصر والأردن يبحثان عن طرق لإعادة دمج سوريا في الحظيرة العربية، باستخدام لبنان كشَركٍ أو صنّارة للقيام بذلك. يبدو من الواضح بشكل متزايد أن ما يصوّره البعض في واشنطن على أنه محاولة لإدارة بايدن للاتجاه نحو نظام الأسد وإيران، قد يكون في الواقع أكثر أهمية: محاولة من الدول العربية لاستخدام الانفتاح تجاه سوريا ولبنان لتحدّي نفوذ إيران في كلا البلدين وتحويلهما إلى أماكن يمكن للعرب فيها المساومة مع طهران.

إذا كان هذا صحيحاً، فإنه يشير إلى تغييرٍ جذري في المواقف العربية تجاه الجمهورية الإسلامية. حتى وقت قريب، كان يأمل العديد من الدول العربية أن تتمكن الولايات المتحدة، وحتى إسرائيل، من احتواء التوسّع الإيراني في المنطقة. لطالما كانت سياسة احتواء إيران جزءاً من النهج الأميركي، لدرجة أن إدارة كلينتون اقترحت ما أسمته “الاحتواء المزدوج” لكلٍّ من إيران وعراق صدام حسين قبل ثلاثة عقود.

يبدو أن اتفاقات التطبيع بين دول الخليج وإسرائيل في العام الماضي كانت خطوة أخرى في هذا الاتجاه. لقد كانت وسيلة لخلقِ ثقلٍ مُوازِنٍ لإيران بعدما لم تفعل الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب شيئاً للرد على الهجمات الإيرانية ضد السفن السعودية أو الإماراتية في أيار (مايو) 2019، وبعد أن كان ترامب مُتردّداً بشكلٍ واضح في التدخّل لمساعدة حلفائه السعوديين في أعقاب هجمات الطائرات المُسَيَّرة الإيرانية على مصانع أرامكو في بقيق وخريص في أيلول (سبتمبر) 2019.

ومع ذلك، كان الاحتواء الأميركي فاشلاً. على الرغم من عقودٍ من العقوبات، فقد توسّع نفوذ إيران في الشرق الأوسط. لا تُقَدِّمُ طهران نموذجاً يستحق المُحاكاة، لكنها استغلت الطبيعة المُختَلّة والمُجزّأة للعديد من الدول العربية لصالحها. وإدراكاً لذلك على ما يبدو، وإدراكاً إضافياً أن إسرائيل، بدون دعم الولايات المتحدة، ستفكر مليّاً وأكثر من مرة قبل شنّ حربٍ ضد إيران قد تزعزع استقرار المنطقة، غيّرَت دول عربية عدة تكتيكاتها. تشير سياساتها في سوريا ولبنان إلى أنها قرّرت التعامل مع دولتين تتمتّع فيهما إيران بنفوذٍ كبير -على عكس المملكة العربية السعودية، التي عزلت لبنان وحلفاءها اللبنانيين تماماً لسنوات، واعتبرت البلاد قضيّة خاسرة.

النهج السعودي هو إلى حدٍّ كبير قضية تكلفة الفرصة السياسية. في حين أن الإيرانيين استفادوا من علاقاتهم مع “أنصار الله” في اليمن لجرِّ السعوديين إلى مستنقع، فإن السعوديين تقريباً تخلّوا عن أوراقهم اللبنانية – ليس أقلها وجود مجتمع سنّي كبير، مثل الطائفة الشيعية، في لبنان الذي يبحث عن راعٍ إقليمي للرد على “حزب الله”. رُغم ذلك، ما يبدو أن السعوديين لا يُقدّرونه أو يدركونه تماماً هو أن الكثيرين من السنّة غير مستعدين لإثارة حرب أهلية جديدة سعياً وراء هذا الهدف.

يُظهِرُ الاتجاه في أماكن أخرى من العالم العربي توجّهاً واسع الخيال أكثر. يبدو أن سلوك مصر والأردن في لبنان، مثل سلوك الإمارات العربية المتحدة وقطر، يشير إلى أنه إذا تمكّنت الدول ذات الأغلبية السنّية من حشدِ تحالفاتها والمُتعاطفين معها في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فإن لديها فرصة أفضل لإجبار إيران على مراعاة مصالح الدول العربية أكثر من الاعتماد على الأسلحة الأميركية أو الإسرائيلية. ما لدينا هنا هو عودة إلى السياسة. نظراً إلى أن العديد من البلدان التي تلعب فيها إيران دوراً مُهيمناً – سوريا واليمن ولبنان والعراق – لديها إمّا غالبية سنّية أو أقليات مهمّة مُعادية لإيران، فإن خلقَ فُرَصٍ لإجبار إيران على التسوية أمرٌ منطقي.

بطريقة ما إننا نعود إلى الشرق الأوسط في خمسينات القرن الماضي، عندما تمّ تقسيم البلدان في جميع أنحاء المنطقة داخلياً وفقاً للتعاطف السياسي لشرائح من سكانها – لصالح الناصرية أو البعثية أو الشيوعية أو الهاشميين أو الغرب. اليوم، انفتحت المنطقة على الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية المتنافسة – إيران وتركيا وإسرائيل وروسيا وفرنسا – حتى مع احتفاظ الولايات المتحدة بنفوذها، لذلك لا يمكن تجاهل الاحتمالات المُتاحة في موازنة الجهات الفاعلة الأخرى.

بالنظر إلى المسار الآخر لصفقة الغاز المصرية مع لبنان، يبدو أن إدارة بايدن قد تبنّت هذا المنطق. كان تحقيق توازن القوى الإقليمي الذاتي التوليد بعد الانسحاب العسكري الأميركي هو هدف إدارة أوباما، وهو توازن قد يتّفق معه جو بايدن اليوم. بعد كل شيء، كان باراك أوباما هو من قال لجيفري غولدبرغ في مجلة “ذي أتلانتيك”: “إن المنافسة بين السعوديين والإيرانيين، التي ساعدت على تغذية الحروب بالوكالة والفوضى في سوريا والعراق واليمن، تتطلب منّا أن نقول لأصدقائنا، وكذلك للإيرانيين، أنهم بحاجة إلى إيجاد طريقةٍ فعّالة لمشاركة الجوار وإقامة نوع من السلام البارد”.

هذه الرسالة تجد صدى لها في العالم العربي. في غياب الولايات المتحدة التي تعمل كجهّة تنظيمية في الشرق الأوسط، تُكدّس الدول العربية أوراقاً للعب ألعاب القوة الخاصة بها على المستوى الإقليمي. يظل الجدل في واشنطن مُنعزلاً، ويُركّز على كيفية تصرّف إدارةٍ ما وما يعنيه ذلك محلياً، لكن في الشرق الأوسط، تفرض الأنظمة قواعد لعب جديدة. إنها تستعد لمنطقةٍ تتمحور بعيداً من أميركا.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى