مسرح لبناني ثلاثي الأبعاد!

بقلم جوزِف قرداحي

على خطى السينما اللبنانية، ينشط المسرح في لبنان وتزدهر حركة المسرحيين، ولكن بأنماط جديدة، ومواهب كانت لو كُتِب لها أن تظهر في سبعينات وثمانينات وربما تسعينات القرن الفائت وبداية الألفية الثالثة، أو لنقل في زمن ما قبل الأنترنت والفايسبوك والتويتر والإنستغرام، لما عرفت هذا النجاح والإقبال غير المسبوق من جمهور على ما يبدو أصبح أكثر نضجاً ووعياً وأكثر إسيتعاباً لهذا النوع من المسرح الطليعي المثقف، الذي يعتمد على الحوارات المكثفة البعيدة من الموسيقى والغناء وحتى الديكورات المبهرة بألوانها وفخامتها.
على قدم وساق، شهدت مسارح بيروت ثلاثة أنماط من المسرح لثلاثة مخرجين مسرحيين مختلفي الأهواء والمدارس والمناهج: يحيى جابر إبن المسرح الشعبي الحكواتي المُعتمِد على الشخص الواحد، (بطولة زياد عيتاني). لينا خوري إبنة المسرح التجريبي المشغول بالنمط الفولتيري الفرنسي، القائم على الإقتباسات والنصوص المركّبة ذات البُعد اليساري النضالي المُنقرض في زمن العولمة (نص عصام محفوظ). وأخيراً ميلاد الهاشم، صاحب التجربة الدرامية الأغنى، وإبن مسرح البولفار الأقرب إلى إستعراضات مسارح برودواي وإن بإمكانات متواضعة إنتاجياً (نص وحوار وموسيقى حبيب يونس).
في وتيرة شبه متناسقة جرى سباق غير معلن بين المسرحيات الثلاث، وإن تفاوتت التجارب الثلاث من حيث نوعية خشبات العرض التي توزعت ما بين مسرح غلبنكيان (الجامعة اللبنانية الأميركية LAU) في الحمرا، ومسرح “الجامعة اللبنانية الدولية LIU” في سن الفيل، ومسرح محترف شكلاً وتجهيزاً في مجمع دون DUNE” في فردان. وهو ما يجعل من المقارنة شبه ظالمة من حيث الإقبال الجماهيري المنقطع النظير الذي شهدته مسرحية: “بيروت فوق الشجرة” ليحيى جابر المنتقل في خطوة ذكية من مسرح متهالك تتآكله الرطوبة، مسرح “المدينة” في الحمرا، إلى مسرح أكثر شباباً وإشراقاً وأناقة هو مسرح “دون Dune” في فردان.
ولكن ماذا لو اردنا أن نعرض المسرحيات الثلاث بانورامياً في وقت واحد على خشبة واحدة مثلّثة وتحت سقف واحد لجمهور واحد؟! على ماذا نقع؟! وما هو المشهد المحبوك بفوضوية على هذه الرقعة الفسيفسائية من الخشبة؟!
حتماً لن يختلف المشهد الداخلي للمسرحيات الثلاث: “بيروت فوق الشجرة”، “لماذا؟”، و”بالمزاد العلني”، عن المشهد الخارجي للمسرحية اللبنانية الأكبر السارية العرض منذ ما قبل الإستقلال حتى اليوم.
فالوطن الذي أراد قادته وزعماؤه عرضه في المزاد العلني لبيعه بعد فرزه وتحويله إلى شركة عقارية، لم يولد منذ الإستقلال إلّا في الغرف الحمراء على يد أكثر من عاهرة سرية من اليمين المحافظ أو قوّاد من اليسار الثائر، على وقع سيناريو أقرب إلى سيناريو فيلم “أبي فوق الشجرة” الشهير لعبد الحليم حافظ وناديا لطفي. فتزدهر تجارة إستيراد الثورات الخارجية، بواسطة “قواديها” من اليساريين المحليين، للأنقلاب على عاهرة النظام التي تمارس الدعارة سراً مع أنظمة الدول الأجنبية الغنية ودول البترول، لإخضاعها وإبتزازها وبيعها في سوق الرقيق الجديدة لثوار الرفيق لينين وستالين، بعد تحويل الوطن إلى كباريه أو “ستيريو 71″، يمارس الثوار فيه جميع أنواع التمرّد والعصيان على التقاليد الإجتماعية وهدم كل المحرمات الدينية والإجتماعية والأخلاقية.
إنه مشهد بانورامي بأبعاد ثلاثية، يختصر الحالة اللبنانية المُنفصمة. جمهور يؤمن بالمقدّسات ولا يؤمن بالإنسان الذي وُضعت المقدسات لأجله. جمهور يثور لمشهد مسرحي إستفز غيرته المذهبية على طقس كنسي ولا يثور لمشهد الإعدام التعسّفي الذي جرى فيه هذا الطقس الكنسي، وكأن الطقس الجنائزي أكثر قداسة من الضحية التى تُقام من أجلها الجنازة. رجال دين يتدخّلون لدى الرقابة لمنع عرض مسرحي لا يدخل الى البيوت، ويغضّون البصر والضمير عن مشاهد القتل والإغتصاب والدمار والجثث المشوَّهة التي تعرضها الشاشات المنزلية وتتسابق إلى الترويج لها لمزيد من التشويق ولكسب المزيد من نسبة المشاهدين.
حين يجعل كاتب كبير مثل عصام محفوظ قاتل خطير مثل سرحان سرحان بطلاً قومياً بموازاة شهداء حقيقيين أمثال زعيم الحزب السوري القومي الإجتماعي أنطون سعادة الذي اعدمته السلطة اللبانية تعسّفاً وأمين عام الحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو الذي قتلته المخابرات السورية في زمن الوحدة العربية وذوَّبت جسده بالأسيد، لا بد أن تسأل ماذا كان ليفعل يحيى جابر اليساري الشيوعي السابق وحبيب يونس القواتي السابق، لو عاد بهما الزمن من متاريس المسرح إلى متاريس الوطن؟! هل كانا سيحملان بندقية أم قلماً لتأريخ مزيد من مآسي الوطن على وقع الضحك الساخر؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى