اللبننة الطارئة في مواقف زعيم “حزب الله”

محمّد قوّاص*

مَن رأى في أُطروحاتِ الأمين العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصر الله أخيرًا لَبنَنَةً مُتَقَدِّمة، لديه كل الحقّ في ذلك. وإذا ما كان تقييمُ اللبننة في دراسةِ حركة الحزب تعني دراسةَ المسافة من الأولويات الإيرانية، فإن لَبننةَ نصر الله الموعودة هي جُزءٌ أصيلٌ من أجندات الحزب الإيرانية وليست، ولا يمكن أن تكون، نقيضًا لها.

يدعو زعيم الحزب الذي يُمثّلُ نفوذَ إيران في لبنان إلى ولوج التسويات المُرتبطة بالسلاح والدفاع والاقتصاد والسياسة والدستور. تأتي الدعوة في لحظةٍ أخرى من لحظاتِ تفوّقِ الحزب في لبنان وقُدرته الدائمة على الإمساك بالعملية السياسية والتحكّمِ بإيقاعاتها. في يدِ الحزب توقيتُ إجراءِ الانتخابات الرئاسية والدفع باسمٍ على حساب آخر لدخول قصر بعبدا. وفي يدِ الحزب التأثيرُ في مستقبل الحُكم في لبنان، وبالتالي في صيروره عيشُ البلد ومسارُ وضعه الاقتصادي.

التسوية تتمّ عادةً بين أطرافٍ مُتساويةٍ في قواها أو تكاد. فإذا ما أوحت تصريحات نصرالله بالدفع نحو تغيير النظام السياسي اللبناني، فإن اختلال موازين القوى لمصلحة “حزب الله” يقود آليًّا إلى ولادة نظامٍ سياسي تميل توازناته لمصلحة الحزب ويُلبي مطالبه وطموحاته في تقاسم السلطة والثروة في البلاد.

يحتاجُ “حزب الله” إلى جَرِّ اللبنانيين إلى نظامٍ سياسيٍّ جديد يَمحضُ شرعيةً لأرجحيّةِ قوّته في البلد واعترافًا دستوريًا بها. ولئن لا يستطيع الحزب، بحكم تركيبة لبنان الداخلية والموانع الخارجية، حُكمَ البلد أو تحويل الآخرين إلى مساهمين في ذلك الحُكم، فإن للحزب مصلحةً في إقناع مُكوّنات النظام السياسي اللبناني بالعبور نحو تسويةٍ تَقبل به وصيًّا مُضمرًا على حكم البلد والتحكّم بخياراته. وفوق ذلك يحتاج “حزب الله” إلى قيادة التحوّل في النظام السياسي اللبناني من خلال تصليب بيئته الحاضنة وإزالة أيّ تصدّعات داخلها. ومن هنا نفهم استفاقة نصر الله الطارئة على “التكامل” مع حركة “أمل” و”الاعتراف” بدورها التاريخي في “المقاومة”.

ما يتسرّب من النزوع اللبناني الحديث لزعيم “حزب الله” ليس خفيًّا ومُلتبسًا، بل يحمل في الكلمات إرادةً مُعلَنة في صناعة لبنان على مقاس ما حققته إيران وحزبها في لبنان منذ أكثر من أربعة عقود. ولئن يضع نصر الله موضوع السلاح في آخر سُلَّمِ التسويات المُقترحة، فذلك أن السلاح، المفترض أن يملي على اللبنانيين تسوية الحزب العتيدة، هو وحده عصب التفوّق والقوة التي لم يمتلك “حزب الله” غيره عامل استعلاء على لبنان واللبنانيين.

لبننة زعيم “حزب الله” تمرينٌ طبيعي لكل التسويات المُحتملة في المنطقة والعالم. أجواء الانفراج في علاقات إيران مع العالم الدائرة حول مصير البرنامج النووي، وأجواء الودّ المُتقدّم في علاقات طهران مع الرياض وعمان والكويت وأبوظبي وغيرها، تصبّ في حسابات طهران مكاسب وُجِبَ حُسن استثمارها وجَني ثمارها. ولا شك في أن مشاعر القوة التي تعتري الحاكم في طهران، أيًّا كانت دقّة تقييم حيثيات تلك القوة ووجاهتها، فإنها ستتمدد نحو أذرع إيران في المنطقة المطلوب منها أيضًا الاستفادة القصوى من أوهام القوة لتعزيز نفوذ إيران في بلدان المنطقة.

وفق تلك الحقيقة تجب قراءة اللبننة الطارئة في خطاب نصر الله وإيحاءاته الودّية صوب الجماعات اللبنانية. وإذا ما كانت المعادلة القديمة تقول إن الحزبَ لن يتخلّى عن سلاحه في لبنان إلّا مقابل أثمانٍ داخل نظام الحكم ودستوره ومعادلات التقاسم والشراكة، فإن ما تشي به مقترحات نصر الله وتوصياته يُفيدُ بأن السلاح ليس عملة مُقايضة طالما أنه ضامن البر والبحر وثرواتهما والساهر الوحيد على مراحل التنقيب عن الطاقة في مياه لبنان كما على خرائط الترسيم الحدودي البري بعد البحري مع إسرائيل.

لم يتغيّر “حزب الله” ولن يتغيّر. هو ذاهبٌ نحو السلطة في البلاد منذ أن قرّرَ الانطلاق من معسكرات “المقاومة” للالتحاق بالمؤسسات السياسية الحاكمة في لبنان. ما يحمله الأمين العام للحزب ليس لافتًا، ولا يجب أن يكون مُفاجئًا، منذ أن جاهر علنًا بالدعوة إلى مؤتمر تأسيسي يُعيدُ صياغة دستورية لتعديل نظام الحكم في البلد. ومن حقّ الحزب كما حقّ أي طرف آخر الدعوة إلى التفكير في تعديلات دستورية على منوال دعوات تصدر يوميًا من هذه الدولة أو تلك في العالم. لكن السؤال يكمن في قدرة بقية المكوّنات اللبنانية على الدفاع عن لبنانها مقابل لبننة الحزب المقترحة.

يدرجُ بعض التحليلات اندفاعَ “حزب الله “نحو تسوية لبنانية داخل مُعطياتٍ تتحدّث عن قرب التسويات في المنطقة. لكن معادلة التسوية اللبنانية لا يمكن أن تقوم منطقيًّا من دون ظهورِ الأعراضِ الأولى لتسوية جدّية قابلة للحياة في سوريا. وإذا ما تقدّمت تسوية “حزب الله” اللبنانية في غياب تسوية في سوريا، فذلك ليس سهوًا هامشيًّا، بل إن في الاندفاع نحو تسوية لبنانية انتهازًا لفرصة غياب تسوية سورية، لا بل جعل تسوية لبنان المُشوَّهة بقوة السلاح مرجعًا لأيِّ تسويةٍ في سوريا بدأت تركيا تتقدّم أيضًا باتجاهها.

بات مستقبل سلاح “حزب الله” مشروطًا علنًا بالتعديلات الدستورية. سلاحُ إيران هو أداةٌ مُقترَحة للانقلابِ على “الطائف” والذهاب نحو توازناتٍ مُستوحاة من انطباعات القوة في طهران وفرض طبيعةٍ جديدة لعلاقات لبنان مع العالم. وإذا ما كان “الطائف” صنيعة توازناتٍ دولية-عربية، فإن “حزب الله” يحتاج إلى مواقف لبنانية ودولية وإقليمية ترعى ما يمكن أن يطرأَ على النظامِ السياسي اللبناني. فهل في ثنايا الاتفاق العتيد في فيينا ما يوحي لـ”حزب الله” وزعيمه بذلك؟

الحدث العراقي عاملٌ آخر باتجاه لبننة يتوسّلها الحزب قبل أن تطيحَ العرقنة وعدواها بما هو مرسوم ومخطط لتطويع لبنان، وجعله إطلالة دولة الولي الفقيه على البحر المتوسط وثرواته المعلنة والكامنة.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى