الأَبْسِنْتِين: غواية؟ أَم إِدمان؟

دوغا: “جلسة الأَبْسِنْتِين” (1876)

هنري زغيب*

في تعريف هذا الشراب (مبدئيًّا غير الكحولي) أَنه مستخلَصٌ من نبات طيِّب الرائحة، زهرُهُ الأَصفر قويّ، ومنه زهر أَحمر.

عدا اسم “الأَبْسِنْتِينْ (Absinthe)، له اسم آخَر: “الشِيْح”. في تصنيف علماءِ الطبيعة والبيئيين أَنه نباتٌ من الفصيلة المركَّبة، متوفرٌ في السهول، رائحتُه طيبة قوِيَّة، كثيرُ الأَنواع. يُسْتخدَم شَرابُهُ للشفاء من بعض الأَوجاع، وهو أَحيانًا علاجٌ تامٌّ للشفاء من الإِدمان على الكحول المؤْذية. وهذا النبات يحتوي، في بعض أَنواعه، على مُكَوِّنات منَشِّطة قد يسبب الإِكثارُ منه عوارضَ جانبية سلبية. وفي استخدامه مع العسل يُسْهم في تهدئة الجهاز العصبي. وفيه زيوت يَستخدمها البعض في الطهي، وقد يَدخل، بِجُرعاتٍ مدروسة، في تركيب بعض العقاقير الطبية.

ولكن ما علاقته بالفنانين؟

فان غوخ: “مع كأْس الأَبْسِنْتِين” (1887)

أَهل القلم والريشة

في تاريخ الفن التشكيلي لوحات زيتية كثيرة تظهر فيها كؤُوسُ “الأَبْسِنْتين” على طاولة يجلس إِليها شخص أَو أَكثر، حتى أَن النقاد تساءَلوا، في بعض دراساتهم، عن سر شُيوع هذا الشراب في لوحات الفنانين والكُتّاب والشعراء.

أَشهرُ المبدعين المعروف عنهم تعاطيهم الأَبْسِنْتِين: الرسام الهولندي فنسنت فان غوخ (1853-1890)، الكاتب الإِيرلندي أُوسكار وايلد (1854-1900)، الرسام والشاعر الفرنسي شارل غْرُو (1842-1888)، الشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821-1867)، الرسام الفرنسي بول فرلين (1844-1896)، الشاعر الفرنسي أرثور رمبو (1855-1891)، الكاتب الفرنسي أَلفرد جاري (1873-1907)، الكاتب الأَميركي إِرنست همنْغواي (1899-1961)، وآخرون في عالَم الأَدب والفنون.

موضة؟ أَم غواية؟

اللافت أَن معظم المذكورين أَعلاه كانوا في فترة زمنية متقاربة (نحو الربع الأَخير من القرن التاسع عشر) يتعاطون شراب الأَبْسِنْتِين. فهل كانت تلك دُرجةَ العصر (موضة العصر) في حياة “بوهيمية”؟ أَم غواية يتباهى بها المبدعون في تلك الفترة المسمَّاة “عصر باريس الجميل”؟

قد تكون لهذه الظاهرة أَسباب ودوافع مختلفة، هنا بعضها:

أَلبير مينيان: “الجنية الخضراء” (1895)

الساعة الخضراء”

دَرَجَت في فرنسا فترتئذٍ – للدلالة على شراب الأَبْسِنْتِين – ظاهرةُ “الجنية الخضراء” كأَنها “موحيةٌ” أَفكارًا وعوالِمَ للرسامين والشعراء. لذا تصوَّرَها هؤلاء امرأَةً قاسيةً تقود “ضحاياها” إِلى تخدير لذيذ. وبما أَن لون ذاك الشراب كان إِجمالًا أَخضر، أَخذ أُولئك المبدعون يَسْكرون من لونها الإِيحائي أَكثرَ من مفعولها ككأْسٍ مُسْكرة. لذا كانوا يسَمُّون “جلسة الساعة الخضراء” حين هم في الحانة وأَمامهم على الطاولة كأْس الأَبْسِنْتِين.

السحر الخاص

حيال رواج ظاهرة الأَبْسِنْتِين في الأَوساط الأَدبية والفنية، وأَنها نوعٌ من الأُكسير الذي يتلقَّفُهُ الفنانون والشعراء فيحْملهم، كما بسحر خاص، إِلى عوالِمَ نفسيةٍ غريبةٍ ولذيذة، ولو انهم يعلمون أَنَّ هذا وهْمٌ تَخَيُّليّ وليس حقيقة واقعة. وكان ذاك الشعور الرائج سببًا في انتشار تلك الظاهرة وتَوَسُّعها في الأَوساط الباريسية. لكنها انحسرت تدريجيًّا مع انحسار القرن التاسع عشر وعاداته البوهيمية وغياب سحر الأَبْسِنْتِين على الشعراء والفنانين.

المذاق

يحاول النقاد والمؤَرخون أَن يتبيَّنوا أَسبابًا أُخرى لرواج الأَبْسِنْتِين في تلك الفترة من القرن التاسع عشر، في صفوف الطليعيين من الكتَّاب والفنانين، وخصوصًا روَّاد الموجة الانطباعية، وما بعد الانطباعية، والسوريالية، والتكعيبية،… فهؤُلاء كانوا يصرفون وقتًا طويلًا متسكِّعين في الحانات والمقاهي يتناولون الأَبْسِنْتِين ويتحدَّثون في شؤُون الفن والسياسة والأَدب. وكان لبعضهم اختيارٌ محدَّدٌ خاص في “خلطة” كوكتيل الأَبْسِنْتِين وتسمياتها. من هنا مثلًا أَن الرسام هنري تولوز لوتريك كان يسمِّيها “الزلزال”، للدلالة على ما كانت تفعل به حين يتناولُها كأْسًا بعد كأْسٍ بعد كأْس.

اللون الأَصفر

كان كثيرون منهم يتناولونها بكثرة، فلا تكاد الكأْس تفرغ حتى يطلبوا ثانيةً فثالثةً ولا يرتدُّون حتى يبلغوا ما يشبه الدوار. ويذهب مؤَرخون إِلى تقدير أَن فان غوخ، حين بَتَرَ أُذْنه (في 23 كانون الأَول/ديسمبر)، كان تحت تأْثير تناوُلِهِ كؤُوسًا كثيرة من الأَبْسِنْتِين. ويرجِّحون أَن استخدامه اللونَ الأَصفر في بعض لوحاته عائدٌ إِلى غياب حسِّه اللوني الكامل. وكذا الحال في بعض لوحات غوغان الذي هو الآخر كان مدمنًا فاحشًا على تناول الأَبْسِنْتِين.

بيكاسو: “مُدمِنُ الأَبْسِنْتِين” (1901)

صيتها السيِّئ

كان الناس، في معظمهم، ذوي نظرة سيئة إِلى المدمنين على شرب الأَبْسِنْتِين. من تلك الحوادث مثلًا: منْعُ لوحةٍ لإِدوار مانيه (1832-1883) من الاشتراك في معرض باريس 1859. وفيما أَصدر قرارَ المنع مديرُ المعرض توماس كوتور بحجة أَن مانيه “مدمنٌ على الأَبْسِنْتِين”، لم يجد مَن يدافع عنه إِلَّا أوجين دولاكروى (1798-1863). وتنامت ظاهرة تلك التهمة حتى سبَّبَت الأَذى النفسي العميق للفنان مانيه.

حالة الصفاء

يُرْجِع البعض أَيضًا سبب التهافت على شراب الأَبْسِنْتِين إِلى حالة الصفاء الداخلي الذي تسببه كؤُوسُها في خلْق موجة نفسية من الهدوء والراحة. ذلك أَن معظم الشاربين لم يكونوا يشربونها وحدهم بل جَماعيًّا مع رفاق يتعاطونها مثلهم في المقهى أَو الحانة، ما يخلُق بينهم جوًّا من الحوار الهادئ. ومَن كانوا يتناولوا ذاك الشراب بمفردهم، كان لهم رفيقًا على احتمال الوحدة والانفراد.

جميعُها معًا

هي احتمالات وتخمينات جاء بها النقَّاد عبر السنوات منذ النصف الآخر من القرن التاسع عشر، عن سبب (أَو ربما: سرّ) إِقبال المبدعين عصرئذٍ على موجة تعاطي الأَبْسِنْتِين. قد يكون احتمال منها صحيحًا، أَو اثنان منها، أَو جميعها معًا.

أَيًّا يكُن الدافع، يبقى أَنَّ ذاك الشراب كان رفيقَهم في ساعات الوحدة، في ساعات الصحبة، وفي ساعات الإِبداع. ويبقى منه أَنه تَخَلَّد في قصيدة، في نثيرة، أَو في لوحة، ليكون موضوعًا غاب عصرُه لكنه ما زال في أَعمالهم ماثلًا معنا في كل عصر.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى