ألمانيا تَسِيرُ على حَبلٍ مَشدودٍ في الحَربِ بين إسرائيل و”حماس”

انتقدت إسرائيل، الخميس، بيانًا صادرًا عن مكتب المستشار الألماني أولاف شولتس قال فيه إن برلين ستعتقل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتُرَحّله إن كانَ على أراضيها، إذا أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه.

مظاهرة احتجاج دعمًا للفلسطينيين في برلين: هناك قيود لإجراء أي مظاهرة داعمة لفلسطين في ألمانيا.

آرون ألِن*

“لا يوجدُ سوى مكانٍ واحدٍ لألمانيا في هذا الوقت، وهو إلى جانب إسرائيل، وهذا ما نعنيه عندما نقول: أمنُ إسرائيل هو جُزءٌ من سبب وجود دولة ألمانيا”، هذا ما أعلنه المستشار الألماني أولاف شولتس في مجلس النواب الألماني الاتحادي (البوندستاغ) بعد وقتٍ قصيرٍ من هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر).

منذ الحرب العالمية الثانية، كان واجبُ ألمانيا في مُكافحةِ مُعاداةِ السامية وحماية إسرائيل بمثابةِ التزامٍ أخلاقيٍّ مُشتَرَكٍ بين جميع ألوانِ الطيفِ السياسي في البلاد. ومن خلال استحضار أمن إسرائيل باعتباره سبب وجود الدولة، ربط شولز كذلك هذا الإرث التاريخي بالمصالح الأساسية لألمانيا.

وقد ظلَّ ائتلاف “أمبيلكوال” -أو ائتلاف “إشارة المرور” الحاكم، الذي يضمُّ الديموقراطيين الاشتراكيين بزعامة شولتس، والديموقراطيين الأحرار، وحزب الخضر- ثابتًا على دعمه الواضح لإسرائيل بعد الهجوم الأكثر دموية على اليهود منذ المحرقة (الهولوكوست). مع ذلك، فإنَّ الهجومَ العسكري المستمر في غزة ردًا على هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) قد أدى إلى نفورِ العديد من أقوى المدافعين عن إسرائيل في ألمانيا. وقد بدأت التصدّعات في الإجماع الحالي الظهور، الأمر الذي يُشَكّلُ اختبارًا للتوازُنِ بين الالتزامات التي يشعرُ بها الألمان تجاه إسرائيل بسبب إرث المحرقة والتزاماتهم بحقوق الإنسان والمجتمع المُتعدّد الثقافات.

إنَّ جذورَ الموقف الديبلوماسي لبرلين عميقة. منذ الحرب العالمية الثانية وأهوالِ المحرقة، التزمت ألمانيا باستئصالِ مُعاداةِ السامية في كافةِ قطاعاتِ المجتمع. تُحَظّرُ القوانين الألمانية خطابَ الكراهية والتحريضَ المُعادي للسامية، بما في ذلك إنكار الهولوكوست. إنَّ إحياءَ ذكرى المحرقة إلزاميٌّ في جميع المدارس. وتتلقّى الجالية اليهودية في ألمانيا دعمًا مُمَوَّلًا من القطاع العام للمبادرات الأمنية والثقافية.

نظرت الحكومات الألمانية المتعاقبة في فترة ما بعد الحرب إلى إنشاء دولة إسرائيل في العام 1948 كفُرصةٍ لتحقيقِ العدالة التصالُحية لضحايا النظام النازي. ومن خلال اتفاقية لوكسمبورغ لعام 1952 واتفاقية التعويضات بين إسرائيل وألمانيا الغربية في العام 1952، على سبيل المثال، بادرت ألمانيا إلى  توزيع المساعدات للترميم وتقديم التعويضات المالية للناجين من المحرقة وغيرهم من ضحايا الاضطهاد النازي من اليهود.

بعد أن اعترفت ألمانيا رسميًا بدولة إسرائيل في أيار (مايو) 1965، نضجت طبيعةُ العلاقات الألمانية-الإسرائيلية إلى حَدٍّ تجاوَزَ الإصلاح إلى صياغةِ روابط مشتركة. ويحافظُ البلدان على علاقاتٍ ديبلوماسية قوية وتبادُلات ثقافية. كما تُقدّمُ ألمانيا مساعداتٍ عسكرية كبيرة لإسرائيل، ما يعكس مسؤوليتها التي فرضتها على نفسها للعمل كمُدافِعٍ قوي عن البلاد ومُناصِرةٍ لها. وحتى عندما يختلف الطرفان حتمًا، فإنَّ النهجَ الألماني يَعتَمِدُ على التواصُلِ عبر القنوات الديبلوماسية بدلًا من الإدانات المباشرة. وقد أدّى الهجوم الإرهابي الذي وقع في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وما أعقبه إلى إحياءِ هذا التحالف الخاص من جديد مع إحساسٍ مُتَجدّدٍ بالهدف. بالنسبة إلى تحالفِ “إشارة مرور” فإنَّ أمنَ إسرائيل وشرعيتها على المحك، وعلى الألمان واجبٌ مُقدَّسٌ بالوقوف بثبات إلى جانب حليفتهم.

لذلك، قدّمت ألمانيا لإسرائيل دعمًا كاملًا منذ 7 تتشرين الأول (أكتوبر). وقد زار شولتس إسرائيل في 17 تشرين الأول (أكتوبر)، مُعلِنًا: “من المهم جدًا أن نقولَ هذا اليوم هنا خلال هذه الأوقات الصعبة في إسرائيل: تاريخُ ألمانيا والمسؤولية التي تتحمّلها تجاه المحرقة يتطلّبان منا المساعدة في الحفاظ على أمن ووجود إسرائيل”.

وزارت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إسرائيل سبع مرات منذ الهجوم، حاملةً مشاعرَ مُماثلة. وبالإضافة إلى الدعم الخطابي، زادت ألمانيا صادرات الأسلحة إلى إسرائيل عشرة أضعاف، ورفضت الدعوات لوقفِ إطلاق النار، وأكّدَت حقَّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها بموجب القانون الدولي، حتى لو أعربَ كلٌّ من شولتز وبيربوك عن قلقهما بشأنِ الوَضعِ الإنساني في غزة.

وعلى الرُغمِ من هذه الرسائل الديبلوماسية المُستَمرّة، فإنَّ الرأيَ العام الألماني مُنقَسمٌ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى حول مسألة سلوك إسرائيل في الحرب. في الأشهرِ التي تلت السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، أظهرت استطلاعات الرأي أنَّ 45% فقط من الألمان وافقوا على عبارة “العمل العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة مناسبٌ في الإجمال”، في حين عارضه 43%. وقد أجبرت هذه المشاعر أعضاء المؤسّسة السياسية الألمانية على السير على حبلٍ مشدودٍ بين التمسُّكِ بتعهّداتهم التقليدية تجاه كلٍّ من إسرائيل والشعب اليهودي بشكلٍ عام، مع تجنّبِ ردودِ فعلٍ سياسية عَكسية.

في هذه الأثناء، كان القادة الألمان يستخدمون جميع الوسائل القانونية المُتاحة للقضاءِ على مُعاداةِ السامية. بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، زادت الحوادثُ المُعادية للسامية بشكلٍ كبيرٍ في جميع أنحاء ألمانيا، بما في ذلك تدمير الممتلكات في المعابد اليهودية وتخريب المقابر والرموز اليهودية، وفقًا للتقارير الرسمية.

في الوقت نفسه، انتشرت أيضًا الاحتجاجات المؤيِّدة للفلسطينيين في جميع أنحاء البلاد، والتي استجابَ لها المسؤولون بمجموعةٍ متنوِّعةٍ من الإجراءات المُثيرة للجدل في كثيرٍ من الأحيان والتي يقول النقاد إنها تنتهكُ الحرّيات المدنية. وحظّرت ألمانيا بعض الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين وكذلك أيَّ أنشطةٍ ل”حماس” والمنظمات المُرتَبطة بها، بما فيها “صامدون”، التي تدّعي أنها تدافع عن السجناء الفلسطينيين ولكن إسرائيل صنَّفتها على أنها منظمة إرهابية. وفي الآونة الأخيرة، أغلقت شرطة برلين اجتماعًا لمؤتمرٍ فلسطيني في نيسان (أبريل)، مُشيرةً إلى مخاوف من خطابِ كراهيةٍ مُحتَمَل.

وقد أثارت ردودُ الفعلِ هذه مُناقشاتٍ ساخنة بالفعل حول الهجرة داخل ألمانيا. وعلى وجهِ الخصوص، أصبحت المجتمعات الإسلامية والعربية في ألمانيا، والتي تضمُّ أكبر عددٍ من السكان الفلسطينيين في أوروبا، خاضعةً لتدقيقٍ متزايد. وفي مقطع فيديو تمّت مشاهدته على نطاقٍ واسع، أعلن نائب المستشار الألماني روبرت هابيك بحَمَاسٍ واضح أنَّ “المسلمين الذين يعيشون هنا يحقُّ لهم الحصول على الحماية”. لكنه أضاف أنه “يجب عليهم أن يَنؤوا بأنفسهم بوضوح عن مُعاداةِ السامية حتى لا يُقوِّضوا حقّهم في التسامح”.

في الوقت نفسه، استغلَّ حزب “البديل من أجل ألمانيا” السياسي اليميني المُتَطرّف المُناهِض للمهاجرين هذه اللحظة للدعوة إلى اتخاذ تدابير لوَقفِ وعَكسِ ما يُسمّى “معاداة السامية المُستَورَدة” في المجتمعات الإسلامية. علاوًةً على ذلك، بدأ بعض المسؤولين المُنتَخَبين الألمان النظر في مطالبةِ المُتقدِّمين للحصول على الجنسية بتقديمِ إعلانِ دَعمٍ لحقِّ إسرائيل في الوجود. وتقوم ولاية “ساكسونيا-أنهالت” بالفعل بتنفيذ مثل هذه المبادرة.

أصبحت هذه القضيةُ الآن موضوعَ نقاشاتٍ داخلية، حيث يقولُ البعضُ إنَّ هذه الجهود تستهدفُ بشكلٍ غير عادلٍ مُنتقدي إسرائيل من المسلمين والعرب تحت ستارِ مُكافحةِ مُعاداة السامية، بينما يعتقدُ البعضُ الآخر أنها ضرورية للدفاع عن الجالية اليهودية الضعيفة في ألمانيا.

على الساحة الدولية، تُواجِهُ ألمانيا الآن التحدّي المُتنامي المُتَمَثِّل في حماية إسرائيل من جوقةٍ مُتزايدة من الانتقادات بشأنِ عملياتها في غزة. وهذا هو الحال بشكلٍ خاص في ما يتعلق بمسألة ما إذا كانت إسرائيل ترتَكبُ جريمةَ إبادةٍ جماعية هناك أم لا، كما اتّهمت جنوب أفريقيا في قضيةٍ رفعتها أمام محكمة العدل الدولية في العام الماضي. في كانون الثاني (يناير)، ذَكَرَ الحُكمُ الأوّلي لمحكمة العدل الدولية أنَّ “على الأقل بعض الأفعال وأوجه التقصير التي زعمت جنوب أفريقيا أنَّ إسرائيل ارتكبتها في غزة تبدو وكأنها يمكن أن تندرج ضمن أحكام اتفاقية (الإبادة الجماعية)”.

وقد أعرَبَ المسؤولون الألمان مرارًا وتكرارًا عن معارضتهم الشديدة لمزاعم نيّة إسرائيل الإبادة الجماعية. ولكن بمجرّدِ صدورِ الحكم الأوّلي، دعت ألمانيا إسرائيل إلى الالتزام بأمر المحكمة وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة لمساعدة المدنيين. وبعد ذلك بوقتٍ قصير، كانت ألمانيا نفسها في موقفٍ ساخن عندما أرسلت نيكاراغوا طلبًا إلى محكمة العدل الدولية لإصدارِ أمرٍ لبرلين بالتوقّفِ عن إمدادِ إسرائيل بالأسلحة التي، كما قالت نيكاراغوا، تُساعِدُ على ارتكاب الإبادة الجماعية المزعومة. وزعمت ألمانيا بشكلٍ مُقنِعٍ أنها ليست طرفًا في الصراع وأنَّ الصادرات كانت إلى حدٍّ كبير عبارة عن معدات عامة، مثل الخوذات والسترات الواقية. وبينما رفضت محكمة العدل الدولية إصدارَ أمر طارئ لوقف مبيعات الأسلحة، فإنَّ دفاعَ برلين عن نفسها ضد الاتهامات بالتحريض على الإبادة الجماعية يعود إلى فترة مظلمة في تاريخها.

ومع استمرار الصراع بين إسرائيل و”حماس” بدون نهايةٍ في الأفق، فمن المرجح أن يحافظ القادة الألمان من مختلف ألوان الطيف السياسي على دعمهم القوي لإسرائيل. ولكن، قد يضعهم ذلك على نحوٍ مُتزايدٍ على خلافٍ مع ناخبيهم.

  • آرون ألِن هو زميل أول غير مُقيم في مركز تحليل السياسات الأوروبية. عمل سابقًا لدى المنسق الألماني للتعاون عبر الأطلسي كزميلٍ للأمن القومي في مؤسسة “روبرت بوش ستيفتونغ”، وكمستشارٍ كبيرٍ للسياسة الخارجية في مجلس النواب الأميركي.
  • هذا المقال كُتِبَ بالانكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى