البشر ليسوا بضاعةً… لبنان ليس مُستَودَعًا
رشيد درباس*
على أرائِكِهِمْ… سبحانَ خالِقهمْ
عمر أبو ريشة
يَحُنُّ اللبنانيون إلى أيامِ الحربِ لأنَّهم كانوا وقتذاك قادرين على اتِّقاءِ بعضِ ويلاتهم بعدما اختبروا طويلًا أنواعَ القذائف وجِهاتِ إطلاقها؟ ذلك أننا كُنّا في ما مضى نُميِّزُ الراجمة السورية عن الطائرة الصهيونية، واللغمَ المتفجِّر عن صاروخٍ مُقاوِمٍ تاهَ عن هدفه فحطَّ بين البيوت. وكُنّا نعرفُ متى يندلعُ الاشتباك بين أبناء (الصف الواحد) في الأزقّة وخلف الشبابيك، وكيفَ أنّهُ أخطر بكثير من اشتباكات الصفوف المُتعادِية. ورُغمَ ما مرَّ بنا على طول الزمان وعرضه، كُنَّا نتمسّكُ بالأمل ونحوي بعضًا من بحبوحة، أما الآن فنحنُ عاجزون كُليًّا عن إحصاءِ وتشخيصِ المعضلات المتناسلة، المُستَفحِلة كالأورامِ الخبيثة في جَسدِ هذه الدولة المظلومة التي لم تحظَ بالعناية الواجبة، بل تُرِكَتْ على مفارق الأوبئة ومهبِّ الجراثيم، تستدرج إلى وَهْنِها الاشتراكات والالتهابات والأمراض المستعصية.
إنَّ لبنانَ يَحارُ في أولوِيّاتِ العلاجِ وفَكِّ الاشتباك بين ما يتعرّضُ لهُ الجنوبُ من تدميرٍ واغتيال، وتهديدٍ بحربٍ شاملة، وما يُعانيه من شللٍ اقتصادي، ويكابده من آثار خروجه عن مظلة الأمان العربية، إضافةً إلى التفلّتِ الأمني والاغتيالات، وشبكات استغلال القاصرين من دونِ أن ننسى مسألةَ التدفّقِ السوري، فهذا كلُّه يحدثُ في إطارٍ من التهتّك الشرعي والتسيُّب غير المُسبَق في المؤسسات وصدأ التروس في آلة الحكم، واعتماد سياسة الفراغ والتفريغ كمَنهَجٍ صارم، من قمة رئاسة الجمهورية نزولًا إلى بقيّةِ المرافق الاقتصادية والأمنية والقضائية، في حين تُصَرِّفُ فيه أمورَ الدولة، حكومةٌ مشلولةُ الثُّلث، مُقيَّدةُ الثلثين، قعيدةُ الأثلاث على مقاعد رجراجة عند شفا جُرُفٍ هار.
من يَنظُرْ عن بُعدٍ إلى هذه اللوحة يصِبْهُ الاكتئاب؛ أما الذي يتلمّسُ تراكيب ألوانها، وما أُلْصِقُ عليها من أشكالٍ شاذة، فيحزن على أصلِ تلك الصورة التي رسمتها ريشةُ الجغرافيا الطبيعية بألوانٍ أصليّة غير مُهجَّنة، وقيَّضَت لها في زمن ما أن تكونَ موردَ العطاش ونزهةَ الأنظار ودور الكتب والصحافة والعلم والثقافة والاستشفاء.
كانَ الوطنُ الصغيرُ ذا أثرٍ مُشِعٍّ في الداخل والخارج يفوقُ حجمه السكاني والاقتصادي، وهذا جعله مُسيلَ لعابٍ ومحطَّ أطماع، لكنَّ مَن تولّوا إدارة دولة الاستقلال، فاتهم تحصينها بالمناعة السياسية بوجهِ غدر العناصر وتسرّب السموم، وقلق الجيولوجيا.
إن أسوأَ ما يُقاسيه المريض وأهله هو كثرة “الكونسولتات” الطبية التي تدخلُ إلى غرفته غير المُعقَّمة، خاليةَ الوفاض من أيِّ دواء، لتخرج بعدها خالية التشخيص والتقدير، وهذا ما يحدث معنا بين لجنةٍ خُماسية ومُبادرةٍ فرنسية وترسيمِ حدودٍ أميركي، وكُلُّنا ننتظر (غودو) المسمَّى (أموس هوكستين) باعتبار أنَّ العلاجَ الناجعِ لن يأتي إلّا من أميركا من خلال طبيبها البارع الذي تلقّى اختصاصه في جيش الدفاع الإسرائيلي. ونحنُ الآن على جدولِ أعمالِ مؤتمر (بروكسِل)، وكذلك كانت للبنان كلمة في مؤتمر القمة العربي في المنامة، لم تتعدَّ الدقائق الثلاث، فيا ويح ما نحن عليه، ويا لمأزق رئيس الوزراء المطلوب منه أن يعرضَ كوارث نصف قرن من الحروب والعذابات والانهيارات، في مئة وعشرين ثانية، إن تخطّاها لالتقاط أنفاسه، بادره رئيس الجلسة بكتم الكلمة والأنفاس. ولو كانَ لي ما أنصح به الرئيس نجيب ميقاتي سوى الإيجاز الذي يُغني عن التفاصيل، لسألته أن يقولَ هذه العبارة المضغوطة المضبوطة الصارمة: أيها الأشقاء، هذا لحمكم يتشرّد من أرضه وبيوته، هؤلاء أطفالكم يغادرون مدارسهم إلى الجهل والأمّية ويتلقّون الكوليرا والجدري، وينامون في خيامٍ عارية كخيبتنا العارية، ويعيشون على فتاتٍ من موائد العالم الغني، ويشاركون أهل لبنان غذاءَهم القليل، وهواءَهم غير العليل، المشحون بالأحماض السامة، ومياهم الملوَّثة التي تتشارك مع الصرف الصحي في المجرى والمصب. فإن فاضت عن هذه الأسطر برهة وقتٍ إضافية لسألتُ الرئيس ميقاتي أن يملأها بالتحذير من أنَّ عدد المليوني لاجىء في لبنان، قد ينفجر إلى ملايين أخرى، لبنانيين وسوريين وعربًا، حتى لا يبقى أمان لخطوط الخرائط ولا لحرّاس الحدود من طوفان لا يُدرك مداه ولا يُقرَأُ أقصاه.
كان علينا منذُ البدء أن نتعاملَ مع اللجوء السوري بحصافة وأناة، بعيدتَين عن العواطف وعن الانخراطِ في القتال السوري، ومُمكنتَين جدًّا إذ اعتمدنا وسائل ملموسة ومساعدات عربية وتفاهمات دولية. لكنَّ السجالَ السياسي طغى كقشور الزبد، فتركنا الأعماق للتيارات المُندَسَّة ما بين الأمواج، وضاعت الفرصة تلو الفرصة، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من أزمة، توافق مجلس النواب على خطورتها، رُغمَ أنَّ أحدًا لم يغادر موقعه القديم، إذ راحَ كلُّ فريقٍ يضعُ مسؤولية الوجود السوري على الآخر، وكلّهم مُحِقّون في هذا، لأنَّ أعداءَ النظام السوري لم يُقصّروا، وكذلك كتائب “حزب الله”، أما الحلّ فضاعَ بين المُطالبة بوقف (الحرب الكونية على سوريا) وتكليف البلديات بالضبط والربط بمؤازرة الأمن، وكلا الحلَّين لا يَنِمّان عن إرادةٍ صادقة ولا عن وعيٍ وطني. الإيجابية الوحيدة من جلسة مجلس النواب هي الاتفاق على أنَّ الوجودَ السوري أصبح معضلة لبنانية مشتركة، بخلاف ما كانَ يُقال عنه إنه يستهدف المسيحيين. وعليه لا مندوحةَ من أن يلتئمَ عقد مجلس الوزارء (المنتهية صلاحيته) بكامل أعضائه، وأن يتصرّفَ كحكومةِ حرب، فيُكلّف لجنة وزارية برئاسة رئيس الحكومة (على غرار ما فعل الرئيس سلام) تكون مهمّتُها أوّلًا تأليفَ فِرَقٍ لتكوينِ قاعدةِ بياناتٍ وطنية، تُحدِّدُ أعدادَ السوريين وأماكن انتشارهم وتصنيفهم بين نظامي ولاجىء وداخلٍ خِلسةً، ثم القيام بأوسع حملة دولية عربية، لإعادة تجميع الموجات الأخيرة في أماكن إيواءٍ قريبة من الحدود، تكون على درجةٍ عاليةٍ من التقيّدِ بالشروط الإنسانية، ليجري بعد ذلك العمل على ابتكارِ حلولٍ للمُسَجَّلين في وكالةِ اللاجئين، بمختلف الوسائل السياسية والديبلوماسية، بما فيها التفاهم مع الحكومة السورية، بشرطٍ وحيد أن تكونَ أعمالُ هذه اللجنة مُغطّاة بالكامل ومؤيَّدة تأييدًا مطلقًا من الحكومة ومجلس النواب والأحزاب كلّها. إنه لمن العار فعلًا، أن تكونَ حدودنا الجنوبية مُنتَهَكة على مدار الساعة من اعتداءاتِ العدو الإسرائيلي فيما الحدود مع سوريا تميع لدرجة الامّحاء، و”أهل بيزنطية” (على منابرهم) يزعمون البلاغة والحصافة ويتشدّقون باحتكارِ الوطنية والحلول. وأنا في هذا الكلام لا أَنْفي عن الأطراف المتصارعة خبرتها الطويلة ولا ذكاءها السياسي، بل الحذر والقدرةَ على استشعار الخطر، لأنها تُغَلِّبُ الثانوي على الأصلي، وتنظر إلى الخارج على حساب الداخل.
إنَّ مصالحَ الدول توشك بنا، والحكومة الإسرائيلية لم تزل على اندفاعها المجنون الذي قد يؤدّي إلى خَلطِ حساباتٍ كثيرة. وإذا كان ثمة من يضع خريطتنا الأرضية والبشرية قيد الدرس، فإنَّ الجدارة الوطنية وحدها كفيلة بصيانة بلدنا، وهي تتطلّبُ أعلى درجات الوعي والشجاعة والقدرة على ترويض الغرائز، بالذهاب إلى قواسم مشتركة مُتاحة، تبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية يتولّى مهمّة المصالحة الوطنية الكبرى ويعالج الدولة من الحمَّى المزمنة، ويُعيدُ الوضعَ اللبناني السوري إلى حالةٍ صحّية، ويرصُّ الصف اللبناني بوجه العدو، بأقصى درجات التضامن والواقعية.
إنَّ المُفارَقة القائمة دائمًا فينا، هي أنَّ السوادَ الأعظم من المواطنين متوافقٌ على الحلول، ولكن هذا التقارب القاعدي لا ينعكسُ حتى الآن على القيادات، وربما يعود ذلك إلى أنَّ القواعد تُفكّرُ وفقًا لمصالحها المشتركة البسيطة المنزَّهة، أما القيادات فلا تزال على تورّطها وسوءِ التدبير والتقدير.
تبقى ملاحظتان، الأولى هي أنَّ التوجُّسَ الدولي، لا سيما الأوروبي، من اتساع موجات الهجرة، لا يُعالَج بالمساعدات المُسَكِّنَة، بل برسمِ استراتيجيةٍ تقرّها الأمم المتحدة لمنع عمليات التهجير والتطهير الإتني والطائفي، وإلّا فإَّن ضيفَ المَهْجَرِ الأول سيتحول انتشارًا خطيرًا في مستقبل الأيام. أما الملاحظة الثانية فهي أنَّ حُكّامَ إسرائيل قد أحرزوا نجاحًا تامًّا بأن زرعوا في أجيال الشتات والإقامة تشبّثًا بهويتهم وأرضهم، لا تنفع معه بروتوكولات حكماء صهيون، ولا الجدار الدولي الذي احتمت خلفه الدولة العبرية؛ فالنسلُ الفلسطيني تمرَّسَ بالآفات حتى تركها (تقول أماتَ الموت أم ذُعِرَ الذعرُ) على ما قاله المتنبي، وهو تخطّى جيل النكبة خبرةً وصلابةً وحنكة، بل هو قادرٌ على فرض الوحدة الفلسطينية على منظمّاته وتنوّعاته، وردم الانشقاق المُجافي للواقعية والطبيعة.
أعودُ إلى لبنان فأختم بما قاله الدكتور غسان سلامة في تقديمه لكتاب النقيب رمزي جريج (نثر في الهواء): “الدستور شكلٌ للحياة العامة لا يقل أهمية عن مضمونها”، وهو “البوصلة التي يقتضي السير على هداها، والاستخفاف ببنوده يشي بميلٍ مُضمرٍ للخروج عن العقد المجتمعي”.
- رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).