سوزانَّا والشيخان (4 من 5)

اللوحة كاملةً

هنري زغيب*

هذه القصة (مأْخوذةً من “سفْر دانيال” – الإِصحاح الثالث عشر في “الكتاب المقدَّس”) تناوَلَهَا رسَّامون كثيرون، معظمُهم من عصر النهضة الإِيطالية.

في الحلقة الأُولى من هذه السلسلة، مهَّدتُ لقصة سوزانا والشيخَين القاضيَين اللذين اشتَهَيَاها وحاولا اغتصابها وهي تستحمُّ، فصدَّتْهما فاتهَّماها زورًا بخيانة زوجها مع عشيقها الشاب، وأَنقذَها الشاب دانيال من الموت.

في الحلقة الثانية نشرتُ عن اللوحة التي وضعها الرسام الإِيطالي لورنزو لوتُّو.

في الحلقة الثالثة نشرتُ عن اللوحة التي وضعَتْها الرسامة الإِيطالية أَرتيميسا جينْتيليسْكي.

في هذه الحلقة الرابعة (قبل الأَخيرة) قصة “سوزانا والشيخَين” بريشة جيوزيـپِّـِي بارتولوميو كياري (Giuseppe Bartolomeo Chiari).

من هو؟

جيوزيبي بارتولوميو كياري (1654- 1727) ينتمي إِلى أَواخر العهد الباروكي في الرسم (انتهى عمليًا سنة 1750). وُلد في روما وأَمضى فيها معظم حياته. كان من مساعدي الفنان الكلاسيكي الرائد كارلو ماراتّا (1625-1713). في البداية عارض والده ميله إِلى الرسم، لكنَّ أُمه شجَّعتْه بدفع من الرسام كارول غاغلياني.

تردَّد إِلى محترفه رسامون فرنسيون، ثم أَصبح مدير “أَكاديميا القديس لوقا” بين 1723 و1725 وانتخب ثلاث مرات مديرها (أَسَّسها سنة 1577 نفَر من الفنانين في روما لنشر أَعمال الرسامين والنحاتين والمهندسين المصمِّمين والحِرَفيين”، كما تم قبوله عضوًا في  اتحاد الرسامين (1697).

كياري بريشته

عبقرية مبكِّرة

بدأَ الرسم باكرًا. وكان في الثانية والعشرين حين رسم جداريَّتَي “ولادة مريم” و”سجود ملوك المجوس”، في كنيسة سانتا ماريَّا  (روما). ورسَم سقف بازيليك سانتا ماريا كوسميدين (روما)، ووضع لاحقًا عددًا كبيرًا من الجدرانيات والسقوف في روما وسواها. وكان مساعدًا كارلو ماراتّا في تحضير الورق المقوّى لفسيفساءات صحن كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان.

رسم لوحات عدَّة من قصص تاريخية وميثولوجية. بلغ قمَّة شهرته على عهد البابا كليماندُوس الحادي عشر الذي قرَّبه منه وأَصبح رسامه المفضَّل ورعى معظم أَعماله، فطلب منه وضع جدرانيات عدة. شاعت أَعماله في منتصف عشرينات القرن الثامن عشر، وطلبها هواة بريطانيون جمْع اللوحات، وأَرسل لوحات كثيرةً إِلى داعمين آخرين في فرنسا وأَلمانيا، فهو لم يغادر روما إِلى أَيِّ مدينة أُخرى في أوروبا.

تزوج، وله ثمانية أَولاد ترك لهم ثروة عند وفاته. وله لوحات في المجموعة الملَكية (التابعة الأُسرة الملَكية البريطانية).

اللوحة

“سوزانّا والشيخان” زيتية وضعها كياري سنة 1727 (68×81 سنتم)، موجودة حاليًّا في متحف والترز (مدينة بالتيمور – ولاية ميريلند الأَميركية).

ركَّز كياري لوحته على ستر سوزانَّا ثدييها العاريَين في الحمَّام، وعلى محاولتها البريئة الإِفلات من الشيخَين المتحرشَين. وهو استخدم أَلوانًا براقةً كانت رائجة في أَواخر العصر الباروكي، وكان هذا الأَمر يثير رغبة طالبي اللوحات ورعاتها وهواة جمعها.

رأَى عدد من نقَّاد الفن في القرن الثامن عشر، وفي مراحل لاحقة، أَنَّ كياري – ولو انه رسم موضوعًا كان عالجه سواه في عصره – تفرَّد في أَكثر  من عنصر في لوحته.

قراءة اللوحة

جعل كياري أَحد الشيخَين فوق رأْس سوزانَّا محاولًا لَمسها والاقتراب من وجهها، وهي تحاول صدَّه بكفِّها على كتفه، فيما هو يكاد يقفز من فوق الجدار الفاصل بُلوغًا إِليها، فرجْلُه اليمنى ممتدَّة فوق الجدار بينما رجْله اليُسرى على الأَرض خلف الجدار (تظهر منها قَدَمُهُ وراء الجدار في زاوية صغيرة)، فيما بدا الشيخ الآخَر يضع إِصبعه على شفتَيه لإسكات سوزانّا وتهديدها بتهمة (مزوَّرة) إِن هي رفضت الانصياع لجموحهما الشهواني.

وجعل المشهد يجري تحت شجرة ظليلة، وأَبقى في البَعيد (المشهد الخلفي) بعضًا مما في حديقة زوجها الثري يواكيم، وجزءًا من قصره في الجهة اليُمنى من اللوحة.

وجعل الشيخَين في لباس فخم يعتاد أَن يلبسه القضاة لِما في مهمتهم القضائية والقانونية من هيبةٍ تجعل كلماتهم قاطعة وأَحكامَهم صارمة لا تجادَل. وربما هذا ما رمى إِليه كياري عمدًا بإِبراز هيبة قضاة المدينة (بابل) إِزاء فعْلتهما الشنيعة بمراودة سوزانَّا واشتهاء جسدها وتهديدها بتهمة مزوَّرة، ما يمهّد لانكشاف فعْلتهما لاحقًا، حين فضحهُما دانيال الشاب، ما آل بهما إِلى أَنْ يُحكَمَ عليها بالموت وينفَّذَ بهما هذا الحكْم.

لا “ماذا” بل “كيف”

وجعل سوزانا تُخفي ساقيها بما تبقَّى من ثوبها الذي كانت خلعتْه كي تبدأَ باستحمامها، ما جعل معظم أَجزاء جسمها في عريٍ كامل.

وهو رسَم حوضَ المياه إِلى يسار سوزانَّا ممتلئًا تفيض مياه نافورته إِلى البُركة التي تضَع سوزانَّا في مياهها إِحدى قدميها، استعددًا للنزول إِليها فالاستحمام.

وهكذا، تعدَّدت الأَساليب والموضوع واحد. وهنا عظمة الفن المبدع: لا “ماذا” يرسم الفنان بل “كيف” يَرسُم ماذا.  فالـ”ماذا” متوفِّرة للجميع، ويتفرَّد مَن يكون مُغايرًا عن سواه في “كيف يُبدع”.

الحلقة المقبلة – المقال الأَخير: “سوزانَّا والشيخان” بريشة الهولندي رامبرانت

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى