هل يؤدّي موتُ رئيسي إلى زعزعةِ استقرارِ إيران؟

لا تُمثّلُ وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي على جانبِ جبلٍ مُغطّى بالضباب سوى الفصل الأخير في سلسلة الحسابات الخاطئة التي ارتكبتها الجمهورية الإسلامية على مدى 45 عامًا. وكما يعلم الإيرانيون العاديون -وجيرانهم في جميع أنحاء الشرق الأوسط- جيدًا، فإنَّ الأخطاء الاستراتيجية التي ترتكبها طهران غالبًا ما تكون لها عواقب كارثية.

المرشد الأعلى علي خامنئي: من يدعم في الانتخابات الرئاسية الآتية بعد خمسين يومًا؟

سوزان مالوني*

شَكّلت وفاةُ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في حادثِ تحطُّمِ طائرةِ هليكوبتر صدمةً كبيرةً للجمهورية الإسلامية في لحظةٍ محفوفةٍ بالمخاطر بالنسبة إلى الدولة الدينية المُتَصَلّبة والشرق الأوسط الأوسع. وعلى الرُغم من أنَّ رئيسي لم يكن السلطة المُطلّقة في البلاد، إلّا أنه كاَن نموذجًا لبيروقراطيةِ النظام الوحشية. ورحيلُهُ سيُعيدُ تشكيلَ عمليةِ الخلافة التي تلوحُ في الأُفق للقيادة المُسِنّة في إيران، وسيتردّدُ صداه في جميع أنحاء المنطقة التي تُعاني من العنف الذي غذّتهُ طهران.

لقد نجت الجمهورية الإسلامية من تحدّياتٍ هائلة منذ تأسيسها بعد ثورة 1979 التي أطاحت النظام الملكي، بما في ذلك العديد من التحدّيات التي فَرَضَت تكاليفَ باهظة على النظام لكنّها فشلت في إزاحته أو إضعافه بشكلٍ دائم. مع ذلك، فإنَّ التاريخَ قد يزيدُ من جنون العظمة المتأصِّل لدى القيادة، خصوصًا أنه يأتي بعد أسابيع فقط من التصعيد التاريخي في “حرب الظل” مع إسرائيل. وبالنسبة إلى نظامِ حُكمٍ لا يُعطي الأولويّة لأيِّ شيء إلّا لبقائه، فإنَّ فقدانَ الابن المُفضَّل من شأنه أن يُثيرَ شعورًا بالتهديد وربما يُعجّلُ بردِّ فعلٍ عنيفٍ ضدّ مواطنيه وجيرانه. إنَّ وفاة رئيسي ترفع درجة الحرارة في منطقةٍ قابلةٍ للاشتعال أصلًا وتُضيف ورقةً رابحةً جديدةً إلى الكوريغرافيا الديبلوماسية الدقيقة لإدارة جو بايدن بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل حيث تقتربُ من ذروتها.

وفاة رئيسي وسط انتقال النظام

وقعَ الحادثُ بينما كان وفدُ الرئيس عائدًا إلى بلاده بعد افتتاحِ سدٍّ على حدود إيران مع أذربيجان مع رئيس ذلك البلد. بالإضافة إلى رئيسي، كانت المروحية تقلُّ وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، وهو ديبلوماسي يتمتّعُ بعلاقاتٍ واسعة مع البيروقراطية الأمنية في طهران والذي لعب دورًا مركزيًا في تشكيلِ نفوذِ إيران المُتَوَسِّع عبر الشرق الأوسط الأوسع.

كرئيس للجمهورية، جلس رئيسي إلى جانب قمّةِ السلطة في نظامِ الحُكمِ الفريد في إيران، وكان له تأثيرٌ كبير على سياسة البلاد والمجتمع والاقتصاد والعلاقات الخارجية. وبعد وفاته المفاجئة صار النائب الأول للرئيس محمد مخبر، الرئيس السابق لمؤسسة حكومية ضخمة يسيطر عليها المرشد الأعلى، إلى تولي مسؤوليات رئيس الجمهورية. وسوف يُعجّلُ ذلك أيضًا بإجراء انتخابات جديدة في غضون خمسين يومًا، الأمر الذي يتطلّب ارتجالًا سريعًا وعملًا مُتسرِّعًا إلى حدٍّ غير عادي من قِبَل نظامٍ أصبح مُتحجّرًا وغير شعبي على نحوٍ متزايد مع اقترابه من مرور نصف قرن على وجوده.

يفرضُ هذا السيناريو مخاطرَ حقيقية على النظام الذي سعى إلى هندسةِ انتقاله من الجيل الثوري الأصلي إلى ورثته البليدين وغير المُلهِمين. وفي حين تمّت تسوية التنافس الصاخب بين كبار رجال الدين في الثيوقراطية لصالح المتشدّدين، فإنَّ الاقتتالَ الداخلي بين المعسكر المحافظ يظل حادًا وسوف يتصاعدُ حول فُرَصٍ جديدة لاغتنامِ الميزة والأفضلية.

أضف إلى هذا التحدّي أنَّ المؤسّسات التمثيلية المُحاصَرة في إيران لا تحظى إلّا بالقليل من الاهتمام أو الاحترام من جانب مواطنيها، كما يَتَّضِحُ من انخفاضِ نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وبدلًا من ذلك، لجأ الإيرانيون إلى الشوارع والإنترنت للتعبير عن تطلّعاتهم السياسية. وقد يؤدي الانفتاح السياسي غير المُتَوَقَّع إلى إثارةِ نشاطٍ جديدٍ ضدّ النظام، كما يتّضح من مشاهد الإيرانيين وهم يحتفلون بأخبارِ الحادث التي بدأت تتسرّبُ إلى وسائل التواصل الاجتماعي.

والأهم من ذلك هو أنَّ وفاةَ الرئيس قد أنهَت سنواتٍ من المناوراتِ السياسية والتنسيق الدقيق استعدادًا لرحيل السلطة النهائية في إيران، المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي البالغ من العمر 85 عامًا. منذُ أن تولّى قيادة الجمهورية الإسلامية في العام 1989 بعد وفاة آية الله روح الله الخميني، المّؤسس الكاريزمي للدولة الثورية، عزّزَ خامنئي سلطته تحت رعاية مكتبه وأيَّدَ نهجًا عدوانيًا في استعراضِ القوة مما أدّى إلى توسيعِ نفوذ إيران الإقليمي بشكلٍ كبير. إنَّ الحفاظَ على تلك الهيمنة الداخلية والصعود الخارجي سيكون بمثابةِ اختبارٍ لمَن يأتي بعده.

ومن غير المُستَغرَبِ أنَّ النظامَ القمعي في إيران لم يُنتِج وفرةً من المتنافسين المؤهّلين تأهيلًا عاليًا للقيادة غير الخاضعة للمُساءلة. إنَّ الجيلَ الذي ساد في ثورة 1979 يتقدّمُ في السنِّ بسرعة، ومع تضييقِ وتصلّبِ النخبة السياسية في الثيوقراطية، تقلّصت إلى حدٍّ كبير مجموعةُ المرشَّحين المُحتَمَلين الراغبين والقادرين على فَرضِ العقيدة على الشباب والعلمانيين بشكلٍ متزايد.

خلال السنوات الأخيرة، برز رئيسي كأحد أبرز المُرَشَّحين لتولّي منصب المرشد الأعلى بعد رحيل خامنئي عن المشهد. ويبدو أنَّه كرجل دين عنيد، تميّزَ بقسوته – في العام 1988، كان واحدًا من العديد من القضاة الذين أرسلوا آلاف السجناء السياسيين إلى حتفهم بعد محاكماتٍ صورية– وبعلاقاته العائلية بالجناح القوي للمؤسسة الدينية الإيرانية المتمركزة في مشهد.

وبصرف النظر عن رئيسي، فإنَّ أبرزَ المُنافسين على منصب المرشد الأعلى المُقبل هو نجل خامنئي، مجتبى، الذي يتمتّعُ بسلطةٍ غير رسمية كبيرة خلف الكواليس، وبنى علاقاتٍ عميقة مع الحرس الثوري ومكوِّناتٍ أخرى من الأجهزة الأمنية. كثيرًا ما يَذكُرُ الإيرانيون اسمه كخليفةٍ مُحتَمَل لوالده، لكنَّ كثيرين يُشكّكون أيضًا في مؤهّلاته على أساس الافتقار إلى الخبرة القيادية، والمؤهّلات الدينية المحدودة، وعقود من خطاب النظام الذي يُدينُ القيادة الوراثية.

من الناحية الرسمية، تتمُّ إدارة عملية الخلافة من قبل هيئةٍ دينية يتمّ تحديد أعضائها من خلال الانتخابات الإيرانية التي تتمّ إدارتها بشكلٍ مكثف. ومن الناحية العملية، كانت الحملات الانتخابية جارية منذ سنوات، وكذلك عملية التخطيط التي أذن بها المرشد الأعلى الحالي. وكان أحد الأعضاء الثلاثة في اللجنة المُخوَّلة بتقييم المتنافسين المحتملين رئيسي نفسه.

المؤامرات والعواقب

من المُحتَمَل أن يكونَ سببُ الحادث عواملَ عادية، حيث أظهرت مشاهد جهود الإنقاذ طقسًا عاصفًا وضبابًا كثيفًا. ولسنواتٍ، اشتكى الإيرانيون من أنَّ العقوبات الأميركية والدولية جعلت البلاد عرضةً لقضايا الطيران الخطيرة نتيجةً لتقادُمِ المعدّات أو سوء صيانتها – وهي شكوى عاد المسؤولون الإيرانيون يردّدونها في أعقابِ الحادث.

مع ذلك، فإنَّ المخاطرَ العالية لن تؤدّي إلّا إلى تغذية نظريات المؤامرة التي كانت تتسّربُ من التقارير الأولى عن مشاكل المروحيات. إنَّ مثلَ هذه الشكوك مُستَمَدّة من خبرةٍ عميقة في التعامل مع العنف الداخلي والتخريب الخارجي. خلال السنوات الأولى للثورة، أدّت المنافسة بين المكوِّنات المُتباينة للائتلاف الثوري إلى صراعٍ شرسٍ على السلطة وأعمالٍ إرهابية أدّت إلى مقتل –من بين آخرين– عددٍ من رجال الدين المؤثّرين، والوزراء، وأعضاء البرلمان، والرئيس، ورئيس الوزراء. وفقد خامنئي نفسه القدرة على استخدام يده اليمنى نتيجةً لمحاولة اغتيال في العام 1981.

رَدَّ النظامُ بحملةٍ لقتلِ مُنتقديه داخل إيران وخارجها، فضلًا عن الجهود المُستَمِرّة لاستهدافِ المُنشقّين في الولايات المتحدة وأوروبا وخارجها. في العام 1996، حاولت أجهزة الأمن الإيرانية قتل 21 كاتبًا من طريق تعطيل حافلتهم في جبال شمال غرب إيران، على مسافة ليست بعيدة من مكان تحطّمِ مروحية رئيسي – وهي الحلقة التي تم تحويلها لاحقًا إلى فيلمٍ فرَّ مخرجه من البلاد في الأسبوع الماضي فقط سيرًا على الأقدام تجنّبًا للملاحقة القضائية على فنّه.

قد يدفعُ هذا التاريخ العديد من قادة إيران وشعبها إلى تفسيراتٍ ساخرة للحادث. بعد مرور ما يزيد قليلًا عن شهر على قيام السلطات الإيرانية بهجومٍ غير مسبوق على إسرائيل – حيث أطلقت أكثر من 300 طائرة مُسَيَّرة وصواريخ كروز وباليستية على الدولة العبرية ردًّا على غارةٍ إسرائيلية أسفرت عن مقتل مسؤولين عسكريين إيرانيين كبار في دمشق- قد يرى الكثيرون هذا الأمر كرَدٍّ انتقاميٍّ مؤجَّلٍ من جانب إسرائيل. لقد أظهرت إسرائيل نجاحًا استثنائيًا في تنفيذ عملياتٍ مُميتة داخل الأراضي الإيرانية، بما في ذلك سلسلة من اغتيالات لعلماءٍ نوويين إيرانيين.

مع ذلك، في نهاية المطاف، من المؤكّد تقريبًا أنَّ نظريات المؤامرة بعيدة كل البعد من الواقع. إنَّ وفاة رئيسي على جانبِ جبلٍ مُغطّى بالضباب لا يُمثّلُ سوى الفصل الأخير في سلسلة الحسابات الخاطئة التي ارتكبتها الجمهورية الإسلامية على مدى 45 عامًا. وكما يعلم الإيرانيون العاديون -وجيرانهم في جميع أنحاء الشرق الأوسط- جيدًا، فإنَّ الأخطاء الاستراتيجية التي ترتكبها طهران غالبًا ما تكون لها عواقب كارثية.

  • سوزان مالوني هي نائبة الرئيس ومديرة برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكينغز، حيث تُركّز أبحاثها على إيران والطاقة في الخليج العربي. يمكن متابعتها عبر منصة (X) على: @MaloneySuzanne
  • هذا المقال كُتِبَ بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى