الحريرية بين التعليق و”العَلَق”

رشيد درباس*

إذا عَلِقَتْ مَخالِبُهُ بِقرْنٍ
أصاب القَلْبَ أوْ هَتَكَ الحِجابا
جرير

أغلب الظن أن الرئيس سعد الحريري لن يقرأ هذا المقال، بعدما شاع عنه أنه ناءٍ بنفسه فعلًا عما يُكْتب ويُذاع، لا سيما في الأمور التي تتعلق به أو باعتكافه وتعليق عمله السياسي إلى أجل غير معلوم. ولهذا  لا أوجِّهُ إليه الكلام، بل إلى كل من يهمهم الأمر أينما وجدوا وفي أيِّ موقعٍ كانوا.

من المعروف أنه منذ التسوية التي أدت إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا، لم تسر الأمور وفق تصوّر الرئيس الحريري الذي كان كلما حاول أن ينقذ ما جرى “التقاطع” عليه بتقديم مزيدٍ من التساهل، كانت الأمور تتردّى بصورة متسارعة إلى أن كانت انتفاضة تشرين، فقدم استقالته على إثرها مستجيبًا طوعًا لمطالبها.

ثم حيل بين الدكتور مصطفى أديب وتشكيل حكومة جديدة، فجرى تكليف الرئيس الحريري مجددًا، فانكشف جدًّا ما كان مكشوفًا أصلًا، واصطدمت مهمته بأنواع العرقلات المصحوبة بالازدراء العلنيِّ المتعمَّد به، في رسالة واضحة المقاصد مفادها أن ليس مرغوبًا بوجوده من بعد في الحضرة السياسية، سواء من قبل رئيس الجمهورية، أو رئيس “التيار الوطني الحر”، جبران باسيل، المستقوي بحليفه “حزب الله”، على الرُغمِ من التشكيلة النموذجية التي قدمها وضمت خيرة الشباب الأكفاء.

الرأي السائد أنه قرّرَ الاعتكاف لعوامل داخلية وخارجية معًا، لكنني أُسجّلُ له أنه في البداية استجاب لشعارات الانتفاضة فقدم استقالته، وأنه في النهاية مارس إقرارًا عمليًّا بنسبته من المسؤولية عن فشل تلك المرحلة فاتخذ قرارًا جريئًا بالخروج الكلي من دون أن يُحدّدَ موعدًا لعودته، أو يلمح إلى أنه عائد في  ذات يوم؛ على ما تقدم فإنني أحاول تحليل الحالة التي خلّفَها غيابه، من غير أن أنغمس في اللوم أو الانتقاد أو  ترتيب المسؤوليات على هذه الجهة أو تلك.

أبدأ بالقول إن سعد الحريري رفض الاستمرار في السير بمنصة الرؤساء السابقين الذين لا يزاحمونه ولا يسعون للحلول مكانه بل هم أقرّوا وما زالوا يقرّون له بمرجعيته الشعبية والسياسية، ومرد ذلك أن الخطة التي انتهجها مُغايرة لنهجِ رجال المنصّة، وتعكس تباينًا واضحًا بين مَن لا يريد أن تكون له بصمات في هذه الحقبة وأولئك الذين لا يستطيعون الخروج نهائيًّا من اللعبة السياسية كي لا يسيطرَ ضياع تام، بخاصة في مرحلة الفراغ الرئاسي والفراغات المتوالية.

هنا تجدر الملاحظة أنَّ التفكك واندحار المشروع الوطني قد أفقد جسم الدولة كثيرًا من مناعته، فطفت على السطح لغة طائفية فاقعة، من مفرداتِها أن الثنائي الشيعي لا يحق له أن يسمّي الرئيس المسيحي، وأنه في المقابل لا يثق بشركائه ولا يطمئن من خطر الطعن بالمقاومة إلّا إذا تولى السدة شخصٌ مُعَيَّن يثق به. واحتوت تلك اللغةُ علاماتِ وقفٍ كثيرة: فاصلة من “الفنون التشكيلية”، انبرى عبرها “فيدراليون واتحاديون” ليضعوا نقطةً على السطر يعلنون بها انتهاء الصيغة من خلال خرائط ملوّنة متعسفة تَزُجُّ المذاهب المسيحية في ” متحد ثقافي وجغرافي” واحد، وتوزّع المسلمين على مذاهبهم الثلاثة، من دون استشارة أيٍّ من أولئك وهؤلاء، ومع إغفال كلي للطائفة العلوية، وللثقافات السريانية والأرمنية والكردية وسواها. أما علامة التعجب فهي أن الطائفة السنية دخل دورها في حالة التباس، لأن الفترة الفاصلة بين تعليق الحريري نشاطه السياسي وأيامِنا هذه،  لم تبلور مرجعيةً أو مرجعياتٍ تخوّلها مشروعيةَ الانخراط في التجاذب القائم، بدليل أن اقتراح اسم الدكتور نواف سلام لرئاسة الحكومة ـ على وجاهته وجدارة المرشح – جاء من فرنسا التي أدركت تمامًا هشاشة الوضع السني العاجز عن الاقتراح والمتخلّف  عن البحث عن صيغةٍ ما لسدِّ الفراغ.

نصل إلى علامة الاستفهام: هل عادت هذه الطائفة إلى “غبْنِها السابق” فصارت في حالة تشتت وضياع حقوق، جعلت رئيس الحكومة مجرّد “باشكاتب”، أم أن المسألة الجوهرية تكمن في ضمور الدور الوطني التوحيدي المؤهّلة لممارسته؟ إنَّ لنا في رياض الصلح وصائب سلام ورشيد كرامي وسواهم عبرةً، بل إنَّ لنا مثلًا لا يغيب، رفيق الحريري الذي سخّر علاقاته العربية والأجنبية وقدرته على تأمين رؤوس الأموال، ومشى بين الألغام والنقاط والفواصل والعلاماتِ سعيًا لاسترداد الدولة من السيطرة وازدواجية السلطة، فأحرز بذلك حضورًا فائقًا غير طائفي، وكان “عزُّ السنة” في أيامه تجليًّا لعِزِّ لبنان حتى جرى نسفه في عيد الحب من العام 2005.

أما الرئيس سعد الحريري الذي أكسبته شهادة أبيه تفويضًا تخطى طائفته، فقد آثر تعليق مفاعيل التفويض وفق ما أعلن. علمًا أن التعليق، في لغة القانون، نوعان: واحدٌ مرهونٌ بشرط واقف وآخر بشرط فاسخ. فَتَحْتَ أي الشرطين ترك جمهوره؟ وما هو الأجل أو الحدث المطلوب لينتهي التعليق؟

ربما تكون الصراحة جارحة في بعض الأحيان، ولهذا أحاول بما استطعت من أسلوب لطيف أن اقول: إذا كان قرار سعد الحريري بالاعتكاف يهدف إلى إعلامِ مَن يلزم بأنَّ لا غنى عنه في طائفته، فهذا شرط واقفٌ تحقّق، بدليل الحالة السياسية الممغنطة التي تعتري الطائفة السنية، وقد شكا منها الأسبوعَ الفائتَ سماحةُ مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان. حتى ليصح التساؤل في حال الدعوة إلى حوار بين الطوائف، عن عدد ممثلي السنة وعن محاور توجهاتهم بعدما توزع نوابهم على كتل ولقاءات اختلط حابلها بنابلها ومُمانعها بمُعارضها؟

ومن دلائل تحقق الشرط الواقف خيبةُ حسابِ مَن ظنوا أن الحضور الحريري التسووي حال دون ممارسة أدوارٍ “إصلاحية” أو “سيادية”، فهم لم يستطيعوا ذلك بعد الاعتكاف، وبعدما أُسقِطَ في الانتخابات كل من تمسّح باللون الأزرق، وذلك بمعرفةِ وإسهامِ من زعموا القوامة على الوقف الحريري. وكذلك خاب حسابُ من اعتقدوا بإمكانية ملءِ شغور الاعتكاف، إذ فاتهم أن الحريرية ليست حصر إرث ولا فصاحة لسان، ولا خطابًا غاضبًاً، بل هي مشروع إنقاذي إصلاحي إعماري، كلما تعرض للعرقلة والتآمر رسخ أكثرَ في الوجدان اللبناني العام، بدليل أن اغتيال صاحب المشروع آخى بين الشموع والدموع، والجرس والأذان، والفاتحة ورسم إشارة الصليب، وأن من تلك المشهدية انبثقت مشروعية سعد الحريري الذي وجد نفسه بغتة أمينًا على قضية الدولة اللبنانية بما هي حاجة للشعب اللبناني، وإضافة  مضيئة في الإقليم، ورونق التنوع الديني والإتني في العالم كله.

أدنى ما ورثه سعد من أبيه، حصته الإرثية التي تبددت، على ما قيل. لكن الإرث الحقيقي كان الرد الشعبي على  فداحة التغييب التي تتمظهر الآن فداحة الغياب. ليست القضية على الإطلاق مَنْدَبَةً وتحسّرًا على حال الطائفة السنية، بل لفت انتباه إلى إن اضمحلال دورها أفضى إلى اضمحلال المسألة الوطنية بأبعادها كافة، فعبثًا يُسعى لأي تسوية إذا افتقدت المعادلة عنصرًا أساسًا من عناصرها.

أما إذا كان قراره بالتعليق نوعًا من عقاب الذات أو عقاب الاستجابة، فهذا شرط فاسخ لأن التجارب أثبتت أيضًا وأيضًا أن العقوبات ليست سياسات صائبة.

هنا أفتح حاشية لأُذكّر ما لا أنفكُّ عن التذكير به، من انخراط لبنان في عروبته ولغتها، منذ “محيط المحيط” و”الجاسوس على القاموس”، مرورًا “بالعروة الوثقى” واستقبال القضية الفلسطينية بشكل شبه منفرد، ومعاناته مع الماسأة السورية من الاندلاع وصولًا لاستفحال اللجوء السوري على أرضٍ هشّة تكاد تخرُّ بمن حملت. وأُذَكِّرُ أيضاً بما ناله من عناية عربية مزمنة في السياسة والاقتصاد كانت تحول دون سقوطه في بعض المنعطفات، وألفتُ في النهاية إلى أنَّ اللبنانيين الذين وجدوا أنفسهم رُغمًا عنهم رهائن للتجاذب الإقليمي والدولي، ودفعوا  أثمانًا هائلة من جراء العدوان الإسرائيلي، يتعرّضون الآن لعقوبات التجاهل ونفض اليد، والحساب العسير، فيما هم بأشد الحاجة إلى خيمة أوكسجين وقارورة ماء، وساعة كهرباء، وأمصال دواء، وجرعات إغاثة يثاب عليها المغيث يوم القيامة.

إن رعاية اللبنانيين في أماكن استقبالهم، فضل لا ينكر، ولكن رعايتهم في أرضهم فرض عروبة وصلة رحم، وسمة تسامح وصيانة الضاد من الاغتراب، وسُنَّة السلف في ترسيخ الشجر في عمق أرضه، فجسد هذا الوطن المثخن يحتاج إلى مُقوِّيات لا إلى عقوبات.

لقد آن للتعليق أن يتضح نوعه، وزمانه، وشروط انتهائه، فلقد تكاثر في ظله العَلَقُ، والعلقات أنواع من الديدان تُستخدَم أحيانًا للعلاج، لكنها في أصلها طفيليات تتغذّى بامتصاص دماء من نشبت بجسده، والأمثلة على ذلك كثيرة فمنها نتائج الانتخابات النيابية المبعثرة، ومنها أزمة الشغور الرئاسي، ومنها تلك المساحة المفتوحة التي ينبرى فيها بعضهم للتشهير والافتراء على مرحلة رفيق الحريري ورجالها، لكي تُمحي من الذاكرة الوطنية والشعبية.

أختم فأقول: من حق كل من يجد في نفسه كفاءة الدَّوْرِ أن يحاول، ولكن ليس من يكتب… كمَن يمحو.

  • رشيد درباس، وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقاً نقيباً لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى