شمسُ ميسا قرعة في قمر بيت الدين
هنري زغيب*
بالطلَّة الوُثقى التي تُشرق بها على جُمهورها نجمةٌ مكرَّسَةٌ، هكذا أَطلَّتْ على كثافة محبِّيها الذين ملأُوا كامل “باحة النافورة” في الساحة الداخلية (السَلَمْلِك) من قصر بيت الدين.
وإِذا كانت المغنيةُ المتمرسة تعانق جمهورها منذ الدقائق الأُولى لإِطلالتها الأُولى، فَمَيْسا قرعة استحوذَت على نبض محبيها منذ افتتحتْ سهرتَها بتوليفة خاصة لقصيدة جبران “أَعطني النايَ وغَنِّ”، مواصِلةً بعدها باقةً بالإِنكليزية من أُغنياتها التي راجت وهي كانت بعدُ في لوس إِنجلس قبل أَن تتولى لاحقًا مسؤُوليتها الحديثة مديرةً فنيةً لدى “معهد بُركلي للموسيقى” في أَبو ظبي، وبهذه الصفة الـمُشَرِّفة لُبنانَـهَا شاركَت في افتتاح المعرض الدولي “إِكسبو 2020 – دبي”.
الخروج من أَسر الميكروفون
على مسرح بيت الدين مازجَت مَيْسَا بين أُغنيات لبنانية وأُخرى أَجنبية (بالإِنكليزية) في سلاسةٍ مدروسةٍ أَداءً غنائيًّا وتأْديةً مسرحيةً خرجَت عن الجمود وراء الميكروفون – هذه الوقفة التي لم تعُد رائجةً منذ خَتَمَتْها الخالدة فيروز في وقْفتها الـمَهيبة.
من هنا جاء أَداء مَيْسا ديناميًّا – وأَحيانًا كوريغرافيًّا – أَضفى على ثقتها بالصوت ثقةً بامتلاك كامل مساحة المسرح تَحرُّكًا أُغنُوجًا أَمام أُوركسترا عالية الاحتراف بقيادة الملحِّن والموزّع الأُردني عازف الكمان يَعرُب سْـمَيرات (شريك مَيسا في تلحين بعض أُغنياتها)، وعزْف موسيقيين من زملاء مَيْسا في “معهد بركلي أَبو ظبي”.
“وينَك؟ تَعا”
هذا المشهد المتحرك ساعد جمهورها على تجديد حماسته مع كل أُغنية تالية، حتى إِذا أَعلَنَت عن أُغنيتها “وينَك؟ تعا” المخصَّصة نداءً للمهاجرين كي يعودوا إِلى أَرضهم الأُم، تجاوَبَ معها الجمهور في مقاطع عاطفية الحنين:
“وينَك؟ تعا…
الوطن عمبنادي
تَ نشْبُك الأَيادي
الأَرض اللي عليها ربينا
هلَّق عمبتنادينا
وينَك؟ تَعا…
من دون تْرابِةْ وطننا، نحنا مين؟
من دون الشعب الحاضنْنا، نحنا مين؟
الأَرزة ما هيّي شعار
الأَرزة وديعِةْ أَعمار…”…
وكذلك استحثَّت جمهورها في أَحدث أُغنياتها “نتلاقى ببيروت”:
“تعا ناخذ موعد يلَّا
خلِّي الفراق يموت
نترك هالدني كلَّا
ونتلاقى ببيروت”
(تلحين مَيسا ويَعرُب سميرات على كلمات أَحمد عبدالنبي).
الضيف شربل روحانا
وما هي حتى أَعلنَت عن ضيف أُمسيتها الملحِّن وعازف العود شربل روحانا الذي غنَّى معها توليفةً خاصة من الأُغنية الفولكلورية “ع الروزَنا” ليُكمِل وحدَه بأُغنيتين له: “إِنتي والوتَر” و”المرأَة الخطيرة” متمكِّنًا من عزفه الرائع على عودٍ بات منه ولم يعد بين زنديه مصاحبًا ريشته. وكان لحضور شربل روحانا لونٌ محبب روحًا ومضمونًا.
وتتالت فقرات برنامج مَيْسا، منه مع راقصين واقصات في لوحات كوريغرافية مصاحبة أَضفَت على لباسها الأَزرق في القسم الآخر من الأُمسية نكهةً أُخرى تماوجَت مع رقصاتها التعبيرية في مقطوعات وأُغنيات لها: “القدَر بيختار”، تيتي تيتي”، أَو لسواها: “حلوَة يا بلدي” من داليدا، “الليل يا ليلى يعاتبني” من وديع الصافي، “يا عاشقة الورد” من زكي ناصيف، وهي تتمختر بالكلِّ في غوًى مسرحي محبَّب يكرِّسها تدريجيًّا نجمةَ استعراض يحتاجها مسرحنا الغنائي حين هو اكتفاءٌ بالصوت الواحد.
نحو الشخصية والهوية
ولأَن مَيْسا قرعة نالت جوائز أَميركية ومرشَّحة لنيل سواها بعد، فهي إِلى الوُجْهة الوُثقى لتكتسب تباعًا هويةً لها وشخصية مستقلَّة لحضورها الفني كتابةً وتلحينًا وغناءً، في أَداءٍ مسرحيٍّ مميَّز يؤَهِّلُها أَن تكون ساطعةً، في لبنان وعلى مستوى العالَم العربي، بريبيرتوار منوَّع بين أَجنبي ولبناني، يكرِّسُها عذبةَ الحضور على مسارحنا مؤَلِّفة وملحِّنة ومغنِّية، بما يجعلها في صدارة الزمن الآتي.
شُكرًا للرائدة نورا جنبلاط مُشْرقةِ الشموس الجديدة الواعدة بالغد المثمر من مواهبَ لبنانيةٍ على فجْر يجيْءُ من أَصالة الفن العالي كسهرة مَيْسا قرعة التي ذكَّرَتْنا بالمقطوعة الرحبانية في “بياع الخواتم”:
“يا ليلْ الأَزرقْ… خلِّيك اسمعنا
ان ْكان رح تتعوَّقْ بتْسَرِّبْ معنا”
وهذا ما شعرنا به، ونحنُ نُغادر القصر يرافقُنا إِلى بيتِهِ قمرُ بيت الدين.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.