النِّيجر والسُّودان: مَعاييرُ واشنطن المُلتَبِسَة

محمّد قوّاص*

إنتَظَرَت وزارة الخارجية السودانية يومًا كاملًا قبلَ أن تردَّ على تصريحٍ أدلى به السفير الأميركي لدى السودان جون غودفري، في 25 آب (أغسطس). قال الأخير إنَّ طَرَفَي الصراع “لا يصلحان لحُكمِ البلاد، وعليهما إنهاء الحرب، وتسليم السلطة للمدنيين”. وما استنكره بيان الوزارة هو استخدام السفير عبارة “طَرفَي الصراع” على نحوٍ يضع الجيش السوداني على قدم المساواة مع قوات الدعم السريع، وتقديم السفير نفسه وصيًّا على السودان مُفتيًا بمَن يصلح لحُكمه، مُوجِّهًا بنقلِ السلطة إلى مدنييه.

يُعبّرُ تصريحُ السفير الأميركي عن موقفِ واشنطن وبقيّة العواصم الغربية في التعامل مع الأزمة السودانية منذُ اندلاعِ المعارك في نيسان (أبريل) الماضي. عمدت تلك العواصم إلى تصنّعِ حيادٍ فُهِمَ في بداياته أنه مناورة من أجل تسهيل سحب بعثاتها الديبلوماسية أوّلًا، وانتظار نتائج المعركة والبناء على ذلك ثانيًا. وإذا ما تَظهر انتهازيةٌ في لا موقف الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية وتَخَبُّطٍ في إنتاج موقف مفيد للسودانيين، فإنَّ هذا السلوك ساهم أيضًا في تسعير المعارك من أجل تثبيت شرعيةٍ واعترافٍ دوليَين أوحت بهما بياناتٌ مُناشدة “طرفَي الصراع” أو دعوتهما إلى الحوار.

والحقيقة أنَّ سلوكَ المساواة بين الجيش بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو (المُلَقَّب بحميدتي)، فُهِمَ منه نيلٌ من شرعية احتكار الجيش السوداني للسلاح الشرعي مثلما هي حال جيوش العالم، وتَقبُّلٌ لوجودِ سلاح قوات رديفة وتساهلٌ مع واقعه، وربما استحسانه. وإذا ما أظهرت بدايات المعارك تفوّقًا تكتيكيًا لقوات حميدتي ورشاقة في مباغتة الجيش وإيحاءً باحتمالات الانتصار عليه، فإن الموقف الغربي أوحى بجاهزيته للقبولِ بأيِّ أمرٍ واقعٍ تخرجُ به هذه الحرب.

ويُظهِرُ تصريحُ السفير الأميركي تبسيطًا إلى حدِّ السذاجة في ما أصدره من أحكامٍ بشأنِ مَن يصلح ولا يصلح لحُكمِ البلاد. قدّمَ غودفري وجهةَ نظرٍ بدت شخصية يُمكنُ الإدلاء بها في المقاهي وليس من على منبر الديبلوماسية الأميركية، وما تمثّله في العالم وأفريقيا والسودان. فإذا كانت واشنطن عجّلت بإرسال فيكتوريا نولاند، وهي من أبرز مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية، للتحدّث إلى قادة الانقلاب في النيجر، وإذا ما عجّلت بإرسال سفيرة لها إلى نيامي في عزّ هذا الانقلاب، فإن موقفَ السفير الأميركي لدى السودان يأتي من خارج هذا السياق ومُناقضًا لأجوائه.

جاء السلوك الأميركي في النيجر براغماتيًا إلى حدِّ الانتهازية في الإيحاء بقبول التعامل مع “الأمر الواقع”. لم تتحدّث واشنطن عن انقلابٍ وانقلابيين، وجاءت المرونة مُتناقضة مع تحرّكِ المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، ومُسَبِّبةً لغضبٍ مكتوم في باريس. بدا أن واشنطن تسعى من وراء هذه الرشاقة إلى “وراثة” نفوذ فرنسا من جهة، وتعزيز نفوذها داخل النيجر، حيث أقامت في مدينة أغاديز (شمال البلاد) أكبر قاعدة عسكرية للتجسّس والطائرات المُسَيَّرة في أفريقيا من جهة ثانية، وردع أي استفادة لروسيا من استغلال الفرصة لضمّ النيجر إلى معسكرها كما فعلت مع غينيا وأفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو من جهة ثالثة.

فما تفسير سلوك واشنطن في السودان؟

يقترحُ السفير، بلغة الآمر، وقف الحرب وإخراج العسكر، جيشًا وميليشيات، من السلطة من دون أن يوحي بما تملكه بلاده لإجبار المتحاربين “المتساويين” على فعل ذلك والاستجابة لاجتهاداته. يقترح غودفري حلًا مثاليًا يقضي بنقل السلطة إلى المدنيين، مُوحيًا بأن مُرادِفَ العسكر شرٌّ ومُرادِفَ المدنيين خَير. ولم يشرح السفير الأميركي مَن هم المدنيون وكيف يتم اختيارهم وكيف يتم نقل السلطة إليهم، ولماذا هم الأفضل والأقدر والأكفأ على حُكم البلاد وإدارة شؤون شعبها؟

تقتضي مبادئ الدفاع عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، وفق النصوص الغربية، نقل السلطة في السودان بعد إطاحة نظام الرئيس عمر حسن البشير في نيسان (أبريل) 2019 إلى حكومةٍ مُنبثقة من صناديق الاقتراع. ليس المدنيون أفضل من العسكر ولا شرعية لهم لحكم البلاد لأنهم فقط مدنيون. بل إنَّ سلطةً مُنتَخبة، أيًا كانت هوية أعضائها، عسكرًا أو مدنيين، هي الهيئة الحاكمة الوحيدة التي يجب أن تملك حقّ الحُكم في السودان. وتُشبِهُ دعوة السفير الأميركي إلى نقل السلطة إلى المدنيين، ما بدا تحوّلًا في خطاب حميدتي حين راح يدعو إلى تخليص السودان من “زمرة البرهان” ونقل السلطة إلى المدنيين.

ولئن بدا مُستَغرَبًا تحوّل خطاب حميدتي باتجاه دعم الخيار المدني، وهو الذي تورّطت قواته قبل سنوات في قمع الاحتجاجات السلمية للمدنيين، إلّا أنَّ المناورة مفهومةٌ لتوفير مسوّغ أخلاقي للحرب التي يشنّها ضد الجيش، خصوصًا أنَّ قوى مدنية من داخل قوى الحرية والتغيير لاقت حميدتي في تحوّله، ومفهومه لجهة مخاطبة الداخل السوداني كما الرأي العام الدولي بلغةٍ تُلامِسُ مطالب إنهاء حكم العسكر وإقامة نظام سياسي حديث مدني ديموقراطي. فكيف نفهم التبسيط الذي لاقى به سفير واشنطن خطاب أحد المتحاربَين؟

لا يمكن حتى الآن رصد تحوّل للولايات المتحدة منحاز لقوات الدعم السريع على ما يمكن أن يتمّ تأويله من تصريح سفيرها في السودان. غير أن ارتباكًا يُسجَّل في مُقاربةِ واشنطن لأزمة السودان سيؤّثّرُ حتمًا في نجاح منصّة جدة السعودية-الأميركية للحلّ، مقابل دينامية ووضوح وحراك خلّاق في التعامل مع أزمة النيجر، سواء في طَرقِ أبواب نيامي أم في التعجيل بإرسال مولي فاي، مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية، في جولةٍ في القارة السمراء، تشمل نيجيريا وتشاد وغانا، لمناقشة أزمة النيجر.

وإذا كانت تتعامل واشنطن مع أيِّ “أمرٍ واقع” في السودان، فإن التطورات العسكرية الأخيرة لمصلحة الجيش السوداني كما خروج البرهان من الخرطوم لقيادة الدولة من مدينة بورتسودان، على ساحل البحر الأحمر، تفرض قواعد جديدة سيحملها في جولته الخارجية المحتملة. وإذا ما أدلى سفير واشنطن بدلوه قبل ذلك، فإن الواقعية في ديبلوماسية أميركا الأفريقية قد تفرض على السفير نفسه الإدلاء برشاقة بدلوٍ آخر. ويكفي تأمل أن مصر فرشت سجادة حمراء لاستقبال البرهان في العَلَمين، الأربعاء الفائت، وهو “أمر واقع” أيضًا وجب لواشنطن وسفيرها أخذه في الاعتبار.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى