هل يستفيد العالم من عمليات الإنقاذ المالية اليوم لاقتصادات الغد؟

بقلم سعيدة زهيدي*

في العام الفائت، أصدر المُنتدى الإقتصادي العالمي تقريره السنوي عن التنافسية العالمية، حيث قيّم فيه إستعدادات 141 حكومة للمستقبل، ووجد أن غالبية الحكومات حصلت على تصنيف ضعيف في هذا المؤشر وغيره من المؤشرات المهمة طويلة الأجل. ومع ذلك، الآن بعدما أدّى الإغلاق الناجم عن جائحة “كوفيد-19” إلى إحداث فوضى في الإقتصاد العالمي، وكَشفِ أوجه القصور في العديد من المؤسسات والمنظمات، فقد وصل عصر حكومةٍ أكبر، وربما أكثر جرأة.

لقد تمّ فعلياً ضخّ ما يُقدَّر بنحو 9 تريليونات دولار في الإقتصاد العالمي لدعم الأُسَر، ووقف فقدان الوظائف، والحفاظ على بقاء الشركات صامدة. الآن، وقد بدأ بلدانٌ عدة الخروج من حالات الإغلاق، فلديها فرصة فريدة لإعادة تشكيل الإقتصاد لتقديم نتائج أفضل وأكثر اخضراراً وإنصافاً للجميع.

تُوفّر الأزمة فُرصةً لما اعتبره المُنتدى الإقتصادي العالمي “إعادة تشكيل كبيرة”، لا تبدأ في وقت ما في المستقبل البعيد ولكن الآن. بناءً على الدروس المُستفادة من الأزمة المالية لعام 2008 وتداعياتها، يضع العديد من الحكومات مجموعة من الشروط المُفيدة لعمليات الإنقاذ المالية وإجراءات الإنقاذ الأخرى. يُمكن وينبغي الإستفادة من المساعدة قصيرة الأجل التي يتم تقديمها اليوم لتشجيع ممارسات تجارية أكثر مسؤولية، وإنقاذ الوظائف، ومُعالجة عدم المساواة وتغيّر المناخ، وبناء مرونة طويلة الأمد ضد الصدمات المستقبلية.

على سبيل المثال، بسبب المخاوف بشأن تزايد عدم المساواة والضغوط على الموازنات العامة، رفضت فرنسا والدانمارك وبولندا الدعم الحكومي للشركات التي يُوجد مقرّها في ملاذات ضريبية خارج أوروبا. كما حظّرت المملكة المتحدة توزيع الأرباح وقيّدت المكافآت في الشركات التي تستفيد من برنامج القروض الحكومية.

تُحاول الحكومات أيضاً حماية الوظائف من خلال توفير حوافز للشركات للحفاظ على مستويات التوظيف. الشركات الأميركية التي تصل إلى أموال قانون المساعدة والإغاثة والأمن الإقتصادي في مجال فيروس كورونا يجب أن تُحافظ على 90 في المئة على الأقل من مستويات التوظيف التي كانت سائدة قبل انتشار الوباء حتى 30 أيلول (سبتمبر). من جهتها طبّقت اليابان شروطاً مُماثلة في توسيع نطاق مساعدتها للإحتفاظ بالموظفين لتشمل الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم والشركات الكبيرة. وقدّمت روسيا إعانات للأجور للشركات التي تحتفظ بما لا يقل عن 90 في المئة من قوّتها العاملة. وفي الوقت عينه، تُطبّق إيطاليا حظراً شاملاً مؤقتاً على عمليات الفصل، ولا يقتصر ذلك على الشركات التي تحصل على الأموال الحكومية فقط. بينما يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه القيود المؤقتة ستكون فعّالة في الحفاظ على التوظيف بعد رفعها، حيث تُوفر راهناً وسادة و”فرصة قتالية” للعمال في خضم هذه الأزمة غير المسبوقة وقبل التعافي في المستقبل.

حتى في القطاعات المنكوبة بشكل كبير، يتم تصميم تدابير الإنقاذ للتأكيد على المسؤولية الإجتماعية والبيئية وتشجيع المزيد من التفكير طويل المدى. على سبيل المثال، بما أن صناعة الطيران تواجه الآن صدمة في الطلب نتيجة لقيود السفر العالمية، فقد خضعت ممارساتها التجارية قبل الأزمة للتدقيق.

على مدى العقد الفائت، أنفقت أكبر شركات الطيران في الولايات المتحدة 96 في المئة من التدفّق النقدي الحر على عمليات إعادة شراء الأسهم، أي ما يقرب من ضعف معدل الشركات الأخرى المُسجّلة في “ستاندرد آند بورز 500”. الآن، يتعيّن على شركات الطيران التي تُعاني من ضائقة مالية والتي ترغب في الوصول إلى أموال الحكومات ألّا تتوَقّف فقط عن إعادة شراء الأسهم وتوزيعات الأرباح حتى نهاية العام 2021؛ يجب أن توافق أيضاً على عدم استخدام الإجازات غير الطوعية أو خفض معدلات الأجور حتى 30 أيلول (سبتمبر). وبالمثل، فقد ربطت الحكومة الفرنسية “قيوداً خضراء” لخطة الإنقاذ التي تبلغ 7 مليارات يورو لشركة “الخطوط الجوية الفرنسية – كي أل أم” (Air France-KLM)، مما يتطلب من شركة الطيران الإلتزام بخفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون لديها إلى النصف، لكل راكب ولكل كيلومتر، بالنسبة إلى مستواها في العام 2005، بحلول العام 2030.

من الواضح أن هذه الأمثلة على تضمين التفكير طويل الأمد في إجراءات قصيرة المدى هي خطوات في الإتجاه الصحيح. ولكن بالنظر إلى الحجم الهائل للدعم المالي الذي يتم تقديمه والمخاوف المتزايدة بشأن عدم المساواة وتغيّر المناخ والبطالة والدين العام، ينبغي أن تذهب الموجة التالية من إجراءات التعافي إلى أبعد من ذلك.

وهنا، ينبغي اعتبار “صندوق الإتحاد الأوروبي للأزمات للجيل التالي” التابع للمفوضية الأوروبية نموذجاً يَحتذي به الآخرون. فهو، من خلال مِنَحٍ وقروضٍ بقيمة 750 مليار يورو، يَعِدُ بإطلاقِ انتعاشٍ عادلٍ وشاملٍ من خلال تسريع الإنتقال إلى الإقتصاد الرقمي الأخضر. ستُساعد شروطه الأساسية الدول الأوروبية على الإبتعاد من الصناعات الثقيلة المُتدَهورة مع دعم العمال الضعفاء. ولكن يبقى أن نرى ما إذا كانت جميع الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي ستنضم إلى الركب.

لقد دفع الوباء الحكومات إلى دورٍ إستباقي أكثر مما كان يتخيّله أي شخص قبل بضعة أشهر فقط. بينما نتجاوز الأزمة الصحية المباشرة، يجب على صانعي السياسات إغتنام الفرصة لتنفيذ إصلاحات جريئة وتطلعية. ويشمل ذلك إعادة تصميم العقود الإجتماعية، وتوفير شبكات أمان مُناسِبة، وصقل المهارات والوظائف التي سيحتاجها الإقتصاد المُستقبلي، وتحسين توزيع المخاطر والعائد بين الشعب والدولة والقطاع الخاص.

ولكن بينما يتعيّن على الحكومات أن تضطلع بدورٍ قيادي، فإن تشكيل التعافي ورسم مسار جديد للنمو سيتطلبان تعاوناً أكبر بين الشركات والمؤسسات العامة والحكومية والعمال. لكي تنجح عملية إعادة التشكيل الكبرى  يجب أن يُشارك فيها جميع أصحاب المصلحة.

الآن، يجب أن يكون واضحاً أننا لا نستطيع العودة إلى نظامٍ يستفيدُ منه قلّة على حساب الكثيرين. مُجبَرين على إدارة ضغوط قصيرة الأمد وفي الوقت عينه مواجهة حالاتٍ من عدم اليقين طويلة الأجل، يجد القادة أنفسهم عند مفترق طرق تاريخي.

إن النفوذ الجديد التي تتمتع به الحكومات في الوقت الراهن يمنحها الوسائل المطلوبة للبدء في بناء اقتصادات أكثر عدلاً واستدامة ومرونة.

  • سعدية زهيدي هي العضو المنتدب ورئيسة مركز الإقتصاد والمجتمع الجديد في المنتدى الإقتصادي العالمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى