“رسالةُ تَطمين” لا تُطَمئِن دمشق!

محمّد قوّاص*

أشهرٌ عديدة مضت منذ أن أعلنت السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا في آب (أغسطس) الماضي عن خطّة لإنقاذِ قطاعِ الكهرباء في لبنان. فاجأت سفيرة إدارة جو بايدن الديموقراطية المُراقبين كما المسؤولين اللبنانيين بخلاصة مُداولاتٍ دؤوبة جرت بين القاهرة وعمّان من جهة وواشنطن من جهة أخرى، أفضت إلى الدفع بمشروعٍ لاستجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن إلى لبنان مرورًا بالأراضي السورية.

تَوَقَّعَ المُراقبون تحوّلًا جذريًا ما طرأ على الموقف الأميركي من الشأن السوري ومن النظام السوري في دمشق. فورشةٌ إقليمية مُتعدّدة الأطراف للاستجابة لحاجات لبنان الكهربائية مشروطة، بحكم الجغرافيا، بأن تكون سوريا حاضنة أساسية لبناها التحتية. واستجرار الغاز المصري لتغذية معمل الكهرباء في دير عمار في شمال لبنان كما استجرار الكهرباء من الأردن لدعم تغذية شبكة الكهرباء اللبنانية يعتمدان على سلاسة مروره السياسي والميداني داخل الأراضي التي تملك قرارها دمشق بدعمٍ من موسكو.

ولطالما تمّ ربط المُستجِدّات العسكرية الأمنية التي حصلت في منطقة درعا البلد الصيف الماضي، لا سيما بالقرب من الحدود السورية الأردنية، بالضرورات التي يتطلبها “مشروع شيا” إذا جاز التعبير. حتى أن الضغوط، بما فيها الروسية، التي تُمارَس لـ”تنظيف” المنطقة من النفوذ الإيراني بما في ذلك قوات “حزب الله”، اندرجت أيضًا ضمن خطة، ترتاح لها روسيا، هدفها أيضًا طمأنة الأطراف المُوَرّدة (مصر والأردن) على ضمان انسياب صادراتها من الطاقة داخل مناطق لا تخضع لنفوذ طهران، ذلك أن أمرًا كهذا ليس تفصيلًا في آليات إشعال الأضواء الخضر في المنطقة والعالم.

ولئن علّلت السفارة الأميركية في بيروت همّتها بهدف مباشرة حلّ أزمة الكهرباء في لبنان وحصرت المشروع في ذلك المآل فقط، إلّا أن دمشق توسّمت بهذا التحوّل خيرًا ولاحظت فيه موسكو مياهًا تتدفّق نحو طواحينها في سوريا. فالأمر يُدجّن قوانين “قيصر” ويلجمها خدمة لهذا المشروع، ما قد يبعث على تأمّل استثناء أميركي يَعِد باستثناءات أخرى. ناهيك من أن الخطوات القانونية والعملية واللوجيستية للمشروع استلزمت تواصلًا رسميًا بين حكومتَي لبنان وسوريا واجتماعات للوزراء المعنيين في الدول الأربع، بما فرض تعويمًا عربيًا جزئيًا لنظام دمشق.

واللافت أن الولايات المتحدة، وعلى الرغم من ضبابية سياساتها في المنطقة، لا سيما في ما يتعلق بسوريا ولبنان، أظهرت جديّة في “التدخّل” بشكل واضح ومن دون تحفّظ في الدفع بمشروع دعم الطاقة الكهربائية في لبنان، ومسّت من أجل ذلك بمفاعيل “قيصر” وهو من ثوابت ما صدر عن الكونغرس، وحظي بتأييد الحزبَين الديموقراطي والجمهوري، بشأن الموقف من النظام السوري.

واللافت أيضًا أن معلومات تحدّثت عن أن الأمر نوقش مع القاهرة في الزيارة التي قام بها جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، لمصر في أيلول (سبتمبر) الماضي، كما نوقش قبل ذلك مع عمّان في الزيارة التي قام بها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني لواشنطن في تموز (يوليو) الماضي. وقد حافظ المشروع، وفق ذلك، على ثباته وجدّيته، على الرغم من الضجيج الذي أُثيرَ حول الموقف الأميركي السلبي من خطواتٍ عربية لتطبيع العلاقات مع دمشق.

والواضح أن قيام السفيرة شيا بابلاغ بيروت (بعد القاهرة وعمّان) برسالة طمأنة من قبل الإدارة في واشنطن حول غياب أي موانع تحول دون إطلاق المشروع، جاء ضروريًا لتبديد حالة الغموض التي اكتنفت موقف الولايات المتحدة (والتي قيل إن سببها تحفّظات مؤسساتية في واشنطن) وأوحت بصعوبة تمرير ما يمكن أن تعتبره دمشق وموسكو إنجازًا لصالحهما.

ومع ذلك فإن الدفع الأميركي بنهايات المشروع اللبنانية من دون أن يشترطَ ذلك تطورًا إيجابيًا في مقاربة الولايات المتحدة للموقف من النظام السوري، يكشف عن تسوية ما جرى إبرامها بانخراطٍ كامل من قبل روسيا لجني ثمار ما هو معروض (اقتصاديًا على الأقل) من هذه الصفقة الكهروغازية طالما لم تنضج الظروف الجيوستراتيجية لحصد أكثر من ذلك.

تسلّمت حكومة لبنان كتابًا خطّيًا من وزارة الخزانة الأميركية يلغي المخاوف من العقوبات الأميركية المُرتبطة بقانون “قيصر”. سيرفع المشروع تغذية الكهرباء إلى 10 ساعات يوميًّا في نيسان (أبريل) المقبل. جرى الحديث عن استفادة الجانب السوري بنسبة 10 في المئة من غاز مصر و 8 في المئة من كهرباء الأردن المُستَجِرَّيْن عبر الأراضي السورية. وعلى الرغم من رعاية واشنطن، فإن المشروع، في ظاهره، بدا خاليًا من أية مفاعيل سياسية مباشرة تُحرّك شيئًا في شروط وقواعد أي تسوية سياسية في سوريا يمكن أن تكون مقبولة أُمميًّا. غير أن الورشة بحدّ ذاتها تدفع بمفاعيل غير مباشرة وتُعبّر عن عودة دينامياتٍ عربية (مصر والأردن وما يعبران عن امتدادات عربية أخرى) غابت عن سوريا خلال السنوات الأخيرة.

والورشة في شقّها، الذي تطلب “إخلاء” ميدانيًّا لنفوذ إيران في مناطق عبور الغاز والكهرباء المُستَورَدَيْن، تفرض امتحانًا -يهمّ العرب- لقدرة دمشق وراعيها في موسكو على حماية خطوط النقل من أيادي طهران. وتوحي أيضًا (وربما بتشجيع روسي-أميركي) بما يمكن لخرائط الطاقة (حتى تلك في شرق المتوسط) أن تُفعِّل من تحوّلات لن يكون لبنان وسوريا بمنأى عن رياحها، وتأتي في سياقها عودة الموفد الأميركي أموس هوكشتاين، المُكَلَّف بالتوسّط في مفاوضات ترسيم الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، إلى لبنان قريبًا لعلّ فيها ما يُنشّط ورش التنقيب عن الغاز في مياه المنطقة.

تُراقب دمشق والمعارضة السورية كما كافة العواصم المُهتَمّة أو المُنخَرِطة بالشأن السوري بشغف تطور موقف واشنطن حيال الشأن السوري، ذلك أن المزاج هناك يُحدّد البوصلة المقبلة لمستقبل وشكل أي تسوية في هذا البلد. تُدرك موسكو ذلك جيدًا حتى لو كابر وزير خارجيتها سيرغي لافروف ساعيًا لإقناع الأكراد بالحوار مع دمشق لأن “الولايات المتحدة ليست مَن يُقرّر مصير سوريا”.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى