“الإنتِقالُ” المُتَعَثِّرُ في السودان قد يؤدّي إلى دولةٍ فاشلةٍ ثانية في القرن الإفريقي

مع تزايد تعقيد الأزمة السياسية في السودان، يجب على المجتمع الدولي التفكير في ما وراء نهج الوضع الراهن، حيث تطور الوضع إلى أكثر من النزاع حول العملية الانتقالية بين الجيش وقوى الحرية والتغيير.

قوى الحرية والتغيير: شروطها صعبة التحقيق ولكن…

ياسر زيدان*

يُصادِفُ الشهر المقبل الذكرى السنوية الأولى للانقلاب العسكري في السودان  الذي أطاح الحكومة الانتقالية التي تم تشكيلها في العام 2019 بعد الإطاحة بالديكتاتور عمر البشير. بعد مرور عام تقريبًا على إعلان الجنرال عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، ما وصفه بـ”إجراءاته التصحيحية”، تُواجِهُ البلاد ليس فقط مرحلةً إنتقالية مُتَوَقِّفة ومُتعثّرة، بل تواجه أيضًا مشهدًا سياسيًا فوضويًا ومشلولًا.

تدهور الوضع الأمني ​​في العاصمة الخرطوم وأماكن أخرى في أنحاء البلاد منذ استيلاء الجيش على السلطة. يواجه السودان حاليًا أسوأ أزمة اقتصادية منذ عقود، حيث ارتفعت أسعار السلع والخدمات الأساسية بشكلٍ كبير بسبب مستوى التضخم القياسي. لكن التحدّي الرئيس الذي تُواجهه البلاد هو احتمال الإنهيار المؤسّسي، الذي لن يُعرقِلَ الانتقال الديموقراطي عن مساره فحسب، بل يُهدّدُ بفشل الدولة. إن مؤسسات الدولة السودانية تنهار تحت وطأة سوء إدارة النخبة والتوقعات العامة، ويجب على الفاعلين السياسيين في البلاد وكذلك المجتمع الدولي أن يتعاملوا مع شدّة وقساوة الأزمة المستمرة قبل أن تَخرُجَ عن نطاقِ السيطرة.

عندما أطاح البرهان الأعضاء المدنيين في الحكومة الانتقالية، بمن فيهم رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، كان يُعتَقَدُ أنه سيتحرّك بسرعة لاستبدالهم، حتى ولو بمسؤولين أكثر مرونة. لكن هذه التوقّعات لم تتحقّق قط. صرَّحَ البرهان بعد انقلاب تشرين الأول (أكتوبر) 2021 أنه سيُعَيِّن حكومةً مدنية بتفويضٍ محدود للإشراف على الفترة الانتقالية المُتبقّية، بهدف إجراء انتخابات في العام 2022. لكن هذه الخطوات تأخّرت بسبب عملية الوساطة التي ترعاها الأمم المتحدة بين العسكريين والمسؤولين المدنيين السودانيين الذين أطاحهم الجيش.

ونتيجة لذلك، نرى أن هناك وزراءً يشغلون بعض المناصب الوزارية، مثل وزارتي المالية والداخلية، فيما غالبية المناصب القيادية ما زالت شاغرة، بما فيها منصب رئيس الوزراء، الأمر الذي يُهدّد استقرار الحكومة وقدرتها على أداء مهامها الأساسية.

ومما يثير القلق بالقدر نفسه شلل السلطة القضائية. فالمحكمة الدستورية، أعلى سلطة قانونية في البلاد، لم تعمل منذ العام 2019، عندما علق الجيش أعمالها كما الدستور، لإزاحة البشير من السلطة. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال السلطة القضائية بدون رئيس. لذا، ستظل وظائف الدولة في السودان معطلة إلى أن يصبح هناك نظامٌ قضائي فعّال.

في غضون ذلك، يتأرجح الاقتصاد أيضًا على شفا كارثة. التضخّم آخذٌ في الارتفاع، وقرار شركاء الخرطوم الدوليين بتعليق المساعدات بعد انقلاب العام الفائت أدّى إلى تفاقم الأوضاع بدون تغيير سلوك النظام. نتيجة لذلك، تكافح الحكومة لتمويل التزاماتها بموجب اتفاقية جوبا للسلام تجاه الجماعات المتمردة التي انضمت إليها في توقيع الاتفاقية في العام 2020. يخطط جبريل إبراهيم، وهو زعيم سابق للمتمردين ووزير المالية الحالي، لتعويض العجز في التمويل من خلال الضرائب وعائدات الذهب. وتشير التقارير الأخيرة الصادرة عن بنك السودان المركزي إلى حدوث بعض التقدّم، حيث زادت صادرات الذهب، لكن ما زال من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت هذه الإجراءات ستُعوِّض خسارة الإيرادات من المانحين الدوليين.

كما أن الساحة السياسية لا تُقدّم سوى القليل من المؤشرات الواعدة. منذ العام الماضي، جرت محاولات عديدة للتوسّط في صفقة جديدة بين الجيش وقوى الحرية والتغيير، وهي جماعة معارضة مدنية تم إنشاؤها خلال احتجاجات 2018-2019. وتقود المبادرة الرئيسة بعثة الأمم المتحدة في الخرطوم، التي أطلقت حوارًا غير مباشر بين قوى الحرية والتغيير والجيش السوداني. لكن هذه الجهود لم تحقق نجاحًا يُذكَر بسبب الخلافات بين فصائل قوى الحرية والتغيير. حَدَثَ الانقسام داخل هذه القوى الأخيرة قبل انقلاب تشرين الأول (أكتوبر) 2021 بسبب خلافات تقاسم السلطة بين الأحزاب السياسية الرئيسة لقوى الحرية والتغيير والجماعات المتمرّدة. لكن هذه الخلافات تعمّقت أكثر عندما دعمت الجماعات المتمرّدة الانقلاب العسكري.

في أوائل تموز (يوليو)، أعلن البرهان في بيان متلفز أن الجيش سينسحب من السياسة، بينما وعد بحلِّ المجلس السيادي الذي يرأسه بعد تشكيل حكومة انتقالية جديدة. لكن جدوى خطط البرهان تعتمد بشكلٍ كبير على قدرة الأطراف المدنية على الاتفاق على شروط وأحكام مثل هذه الحكومة الانتقالية، والتي يبدو من الصعب الوصول إليها في هذا الوقت.

هناك مبادرة وساطة أخرى يقودها بعض شركاء الخرطوم الدوليين الرئيسيين، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. عقدت هذه المبادرة اجتماعات عدة مع الجيش وفصائل قوى الحرية والتغيير لوضع خارطة طريق سياسية، لكنها أيضًا لم تكن مثمرة في الغالب.

وسط المفاوضات الجارية والفراغ الحكومي، استمرت الاحتجاجات التي نظّمتها لجان المقاومة –وهي مجموعة من الشبكات الشعبية غير الرسمية من المواطنين– تدعو إلى استعادة الحكم المدني حول الخرطوم. ومنذ ذلك الحين زادت هذه المجموعات الشابة من مطالبها الأولية، داعيةً إلى ما يُعرف الآن ب”اللاءات الثلاث” التي تستبعد المفاوضات والشراكات والاتفاقات التي تُضفي الشرعية على مُدبّري الانقلاب. ورُغمَ أنَّ لجان المقاومة تُعتبَر القوة الأبرز وراء مظاهرات الشوارع، فإن مطالبها تجعل من الصعب الوصول إلى اتفاقٍ إنتقالي مع أصحاب المصلحة الآخرين، بالنظر إلى حقيقة ضرورة مشاركة الجيش للوصول إلى أيِّ صفقة.

إحدى مجموعات أصحاب المصلحة التي عرفت بروزُا مُتزايِدًا أخيرًا هي المؤسّسات التقليدية – أي زعماء القبائل والطوائف الصوفية – التي تم تهميشها من قبل القوى السياسية الحديثة مثل قوى إعلان الحرية والتغيير ولجان المقاومة بعد الإطاحة بالبشير. بعد أن أُعيدَ تنظيم هذه المجموعة وإعادة تصنيفها، أطلق أعضاؤها مبادرة وطنية عامة  تحت عنوان “نداء أهل السودان” لإنهاء الأزمة السياسية. وتتمثّل أهدافهم الرئيسة في وضع خارطة طريق للانتخابات وتسهيل قيام حكومة انتقالية توافقية لإدارتها.

بالإضافة إلى الشلل المؤسّسي والتوتّرات الاجتماعية والسياسية المُتفاقمة في السودان، يُعَدُّ الأمن عبر الحدود مجالًا مُهِمًّا آخر للقلق، نظرًا إلى تداعياته الإقليمية. عادت الصراعات الحدودية إلى الظهور، مع اشتباكات بين ميليشيات الأمهرة الإثيوبية والقوات السودانية على طول الحدود الشرقية للبلاد، والتي أصبحت أكثر أمنًا منذ اندلاع حرب تيغراي في شمال إثيوبيا. وحتى داخل المؤسسة الأمنية السودانية، تتصاعد التوترات بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وهي قوات شبه عسكرية تتألف أساسًا من ميليشيات الجنجويد التي قاتلت نيابةً عن الخرطوم خلال الحرب في دارفور. في حين أن الفصيلين لديهما مجموعة من الاختلافات منذ فترة طويلة في الماضي، تُشيرُ التطورات الأخيرة إلى أن الفجوة قد اتَّسَعَت واشتدّت حرارتها.

أحدث نقطة توتر حدثت قبل حوالى أسبوعين عندما أعلن زعيم قوات الدعم السريع، الجنرال محمد حميدتي (محمد حمدان دقلو)، دعمه لمشروعٍ دستوري مؤقت اقترحه المكتب القانوني لقوى الحرية والتغيير. ويتناقض هذا الموقف بشكلٍ مباشر مع موقف البرهان الداعي إلى دعم المبادرات التي تشمل جميع أصحاب المصلحة السياسيين في السودان، وليس فقط قوى الحرية والتغيير. علاوة على ذلك، عندما غادر البرهان البلاد لحضور جنازة الملكة إليزابيث الثانية، قام مؤقتًا بتفويض سلطاته الحكومية والعسكرية إلى الجنرال شمس الدين كباشي بدلًا من حميدتي، على الرغم من أن الأخير هو الاسم الثاني في مجلس السيادة الحاكم.

مع تزايد تعقيد الأزمة السياسية في السودان، يجب على المجتمع الدولي التفكير في ما وراء نهج الوضع الراهن، حيث تطور الوضع إلى أكثر من النزاع حول العملية الانتقالية بين الجيش وقوى الحرية والتغيير. ومن جهتها، تواجه الدولة السودانية نفسها أزمة قد تؤدي بها إلى دولة فاشلة. يجب توسيع نهجٍ جديد ليشمل الثوار الشباب الذين قادوا الانتفاضة ضد البشير وكذلك المؤسسات التقليدية المنفردة. لن تؤدي العملية الثنائية الحالية إلّا إلى تعميق الاستقطاب السياسي والتوترات بين أصحاب المصلحة في السودان. يجب أن تتحرّك واشنطن بسرعة للعمل مع شركائها المحليين والإقليميين لمنع نشوء دولة أخرى فاشلة عديمة الجنسية في القرن الأفريقي، ما قد يُهدّدُ أيضًا المصالح الأميركية في المنطقة.

أخيرًا، يجب أن يُدرِكَ أصحابُ المصلحة المختلفون في السودان مخاطر الدولة الفاشلة وآثارها الأوسع. يجب أن يُحدّدَ الاتفاقُ السياسي الأهداف الرئيسة للفترة الانتقالية حتى إجراء الانتخابات. لا يُمكن لأيِّ حزبٍ سياسي أن يُطالِبَ بالشرعية الشعبية بدون انتخابات تُتَرجِمُ الإرادة الشعبية. ومع أخذ ذلك في الاعتبار، فإن االشمولية هي السبيل ليس فقط لإنقاذ الانتقال المدني ولكن أيضًا الدولة السودانية.

  • ياسر زيدان هو أستاذ محاضر في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية في جامعة السودان الوطنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى