العراق مَفتوحٌ للأعمالِ و… النفوذ

يبدو أن دول الخليج العربي، وخصوصًا المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، تُركّز اهتمامها منذ بداية هذا العام للإستثمار في العراق رُغمَ وقوعه تحت الهيمتة الإيرانية. 

وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان ووزير النفط العراقي حيان عبد الغني: إتفاق على مشاريع سعودية-عراقية مشتركة.

هاني مكارم*

في 3 تموز (يوليو)، توصلت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى اتفاقٍ مع العراق لاستثمار 3 مليارات دولار لكلٍّ منهما في البلاد، ما يشير إلى توسٍّع في استثمارات دول الخليج في وقتٍ يواصل العراق السعي للحصول على تمويلٍ لإعادة الإعمار بعد الحرب وتطوير بنيته التحتية. قال رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في حزيران (يونيو) الفائت، إنَّ استقرار البلاد المتنامي “بعد استعادة وضعها الطبيعي ودورها في المنطقة، يجعلها بيئة واعدة” للمشاريع الاستثمارية. الصفقة التي تم الإعلان عنها أخيرًا توحي بأن الرياض وأبو ظبي توافق على ذلك.

هذا يمثل تغييرًا كبيرًا. على مدى العقدين الماضيين، استخدمت إيران نفوذها السياسي في بغداد، بتمكينٍ من الميليشيات المدعومة من طهران، لترسيخِ مكانةٍ قوية في مختلف قطاعات الاقتصاد العراقي، وبخاصة الطاقة. وهي توفر حاليًا ما يقرب من 40 في المئة من استهلاك الكهرباء في البلاد، لكنها لم تتمكن أخيرًا من تلبية الطلب المتزايد. الآن المنافسة على الاستثمار في العراق، والتأثير الاقتصادي المصاحب لها، أصبحت شديدة بشكلٍ متزايد، مع السعودية والإمارات في المقدمة.

خلال فترة الحرب الأهلية في العراق، تعثرت علاقات الرياض مع بغداد بسبب علاقات الأخيرة الوثيقة مع طهران. في ذلك الوقت، اتهمت الحكومة العراقية السعودية بدعم التمرّد السنّي في البلاد. العلاقات الديبلوماسية، التي قُطِعت خلال حكم صدام حسين، أُعيدت فقط في العام 2015، لكن التوترات اللاحقة أدت إلى استدعاء السفراء. تعود أصول الدفع الاستثماري الحالي للرياض إلى ذوبان الجليد الذي بدأ قبل ثلاث سنوات مع تطبيع العلاقات في أيار (مايو) 2020، تلاه في تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام إعادة فتح معبر عرعر الحدودي بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من الإغلاق.

منذ ذلك الحين، سعت السعودية والإمارات بنشاط للاستثمار في العراق، وقد تسارعت وتيرة هذا الجهد هذا العام، حيث خصصت الرياض أموالًا لدعم الاستثمارات في البنية التحتية والتعدين والزراعة والتطوير العقاري والخدمات المالية. كما وجهت بغداد دعوة إلى أرامكو السعودية للاستثمار في حقل عكاز للغاز في غرب العراق وتطويره، والذي يمكن أن ينتج 400 مليون قدم مكعبة من الغاز يوميًا.

في شباط (فبراير)، كان اجتماعٌ بين السوداني ورئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد يهدف إلى تعزيز المحفظة الاستثمارية لأبوظبي أيضًا. ووقعت بغداد بعد ذلك اتفاقات مع شركة نفط الهلال الإماراتية، إلى جانب شركتين صينيتين، لتطوير حقول النفط والغاز في شمال شرق العراق.

بالإضافة إلى السعودية والإمارات، زادت قطر أيضًا من التزامها بالاستثمار في العراق. في حزيران (يونيو)، وافقت الدوحة على المساهمة بمبلغ 9.5 مليارات دولار في مشاريع مختلفة، بما في ذلك محطة للطاقة، على الرغم من أن الجداول الزمنية المحددة والخطط التفصيلية لم يتم تأكيدها بعد. وستشمل استثمارات قطر أيضًا قطاعَي الرعاية الصحية والضيافة.

وفي إشارة إلى احتمال أن تُثيرَ هذه المبادرات توترات، انتقدت الجماعات المدعومة من طهران في العراق إنخراط الرياض ووصفته بـ”الاستعمار السعودي”، مع اتهامات خاصة باحتمال “تسليح” الاستثمارات ضد المناطق الشيعية. يكمن وراء هذا الانتقاد اعترافهم بأن الاستثمارات السعودية يمكن أن تقوّض نفوذ إيران. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، اضطرت االسعودية للتخلي عن خطط الاستثمار في القطاع الزراعي العراقي بسبب معارضةٍ مُماثلة. اقترحت الرياض استثمارات زراعية جديدة في آذار (مارس)، لكن هناك مخاوف من أن المعارضة داخل العراق قد تعيق مرة أخرى أيّ تقدّم.

أثارت استثمارات الإمارات انتقادات مماثلة وحتى مخاطر أمنية، كما يتّضح من هجومٍ بطائرةٍ مسيَّرة على أبو ظبي في شباط (فبراير) 2022 ادّعى فصيلٌ عراقي أنه ردُّ على “التدخّل” الإماراتي في العراق واليمن. لكن على عكس الرياض، اتبعت أبو ظبي نهجًا مختلفًا، حيث تعاملت مع الفصائل العراقية المسلحة مثل كتائب “حزب الله” و”عصائب أهل الحق” من خلال القوة الناعمة والديبلوماسية. الهدف من هذه الاستراتيجية هو خفض التصعيد من أجل تأمين الاستثمارات الإماراتية، بدلًا من التركيز على تهميش النفوذ الإيراني.

في غضون ذلك، لا تقتصر المنافسة على جيران العراق في الخليج. منذ العام 2021، سعت فرنسا بنشاط إلى تعزيز علاقاتها الاستراتيجية والاقتصادية مع بغداد، بهدف ملء الفراغ الذي خلفه انسحاب القوات الأميركية من البلاد في ذلك العام. وتُوِّجَ ذلك بإقامة شراكة استراتيجية بين فرنسا والعراق في كانون الثاني (يناير) 2023، مع التركيز على الأمن وتدابير مكافحة الفساد والعلاقات الثقافية. كما فتح التعاون الثنائي الباب أمام الشركات الفرنسية للوصول إلى الأسواق العراقية، بما في ذلك استثمار بقيمة 27 مليار دولار من شركة “توتال إينرجي” (TotalEnergies) التي تم التصديق عليها في 11 تموز (يوليو) بعد سنوات من التأخير. وستمنح الصفقة توتال إينرجي أكبر حصة في شركة نفط البصرة تليها الحكومة العراقية وقطر للطاقة.

على الرغم من أنَّ فرنسا تهدف إلى ملء الفراغ الأميركي في العراق، إلّا أن نفوذها لا يزال محدودًا، لا سيما مقارنةً بالصين. وبالمثل، استفادت بكين من انخفاض مشاركة واشنطن في جهود إعادة إعمار العراق لتصبح أكبر مستثمر في البلاد. قامت الصين بدمج العراق في مبادرة الحزام والطريق الخاصة بها وضمنت الوصول إلى سوق النفط العراقي من خلال اتفاقية النفط مقابل إعادة الإعمار في العام 2019، حيث أصبحت الطاقة محورًا رئيسًا للاستثمارات الصينية في البنية التحتية. ولإظهار نجاح الاتفاقية، فإن أكثر من نصف إنتاج النفط العراقي الحالي يأتي من حقول النفط حيث تعمل الشركات الصينية أو تعقد شراكات غير تشغيلية.

بسبب علاقاتها الودية مع جيران العراق في الخليج، واجهت الصين عقبات أقل أمام استثماراتها. في الواقع، حتى العمليات في حقول النفط والغاز في المناطق الخاضعة لسيطرة الميليشيات المدعومة من إيران سارت بسلاسة، بسبب علاقات بكين الوثيقة مع طهران. في الواقع، تُظهر شراكة الصين الاستراتيجية الشاملة مع إيران، والتي تم الانتهاء منها والتوقيع عليها في العام 2021، عزمها على مركزية وربط كل من إيران والعراق في إطار مبادرة الحزام والطريق في الشرق الأوسط.

من ناحية أخرى، كانت هناك بعض المخاوف المحلية من تحول قطاع الطاقة في العراق إلى صناعة تقودها الصين. في العام 2021، مع ظهور خطط “لوك أويل” (Lukoil) و”إكسون موبل” (Exxon Mobil) و”بي بي” (BP) لبيع حصص للصين، تدخلت وزارة النفط العراقية لمنع الشركات الصينية من اكتساب المزيد من السيطرة على حقولها النفطية. على الرغم من استمرار هذه المخاوف، فقد أصبحت بكين بالفعل لاعبًا رئيسًا في صناعة النفط في العراق، وستحتاج الجهات الفاعلة الأخرى، ولا سيما دول الخليج، إلى الإبحار حول نفوذها. في الوقت الحالي، لا يبدو أن هذا يمثل أي عقبة كبيرة، كما يتضح من تعاون الصين والإمارات العربية المتحدة في مشاريع التنمية، كما أُشيرَ سابقًا.

في الوقت الذي تتنافس كل هذه القوى الإقليمية والعالمية المختلفة على تأمين الاستثمارات والنفوذ الاقتصادي في العراق، شكلت المنافسات المستمرة والمعارضة من مختلف الفصائل العراقية والفساد تحديات كبيرة للاستثمارات الأجنبية، ما أعاق آفاق النمو. في نهاية المطاف، سيعتمد نجاح الاستثمارات الإقليمية والعالمية في تنشيط الاقتصاد العراقي على استقرار البلاد.

على الرغم من هذه العقبات، فإن التطورات الأخيرة تسير في الاتجاه الصحيح لبغداد. هناك بصيص أمل في أن زيادة الاستثمار الأجنبي يمكن أن يعالج القضايا الملحة، مثل البطالة وفجوات البنية التحتية، من خلال خلق المزيد من فرص العمل في القطاع الخاص، مع تعزيز قدرات العراق على تصدير المزيد من الطاقة.

لكن على الرغم من مواجهة تحديات نفوذها السابق في بغداد، لا تزال طهران تحتفظ بنفوذها من خلال دعمها للسياسيين والميليشيات العراقية، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات على السيادة العراقية. بالنظر إلى النفوذ الإيراني، لا يزال العراق بعيدًا من الاندماج مرة أخرى في الحظيرة العربية. وعلى الرغم من أن الانفراج الأخير بين طهران والرياض، فضلًا عن الحوار المستمر بين إيران ودول الخليج، قد يخفف التوترات، سيتعين على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة الإبحار بعناية في المشهد السياسي والاقتصادي في العراق لضمان نجاح استثماراتهما. لكن حقيقة أن خططهما الاقتصادية لها أفق زمني طويل الأجل تشير إلى تفاؤلهما بإمكانية تحقيق ذلك.

  • هاني مكارم هو مدير تحرير “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى