لبنان: بَينَ ذِكْرَى المَأساةِ وازدِيَادِ المَخَاطرِ والتَحَدِّيات

الدكتور ناصيف حتّي*

جاءت الذكرى الأولى لمأساةِ انفجارِ مَرفإِ بيروت، والجريمة التي ارتُكِبَت بحقِّ الوطن، لتُؤكِّد لزومَ العملِ على كشفِ الحقيقة الكاملة ومُحاسَبَةِ المسؤولين عن هذه الفاجعة. فهذا الأمرُ شرطٌ مُلِحٌ وأكثر من ضروري لاستعادةِ مِصداقِيّة السلطة، كما يقول البعض في لبنان وفي الخارج، أو لبناءِ مِصداقِيّةٍ كانت مفقودة أو ضعيفة للسلطة في لبنان، كما يرى آخرون. مِصداقِيّةٌ تبقى عاملاً أساسِيّاً إذا ما أردنا الخروجَ من النَفَقِ وولوجَ طريق الإصلاحِ الشاملِ والمُتكامِلِ في السياسة والاقتصاد والاجتماع والإدارة. طريقٌ طويلٌ ليس بالسهل ودونه العديد من التحدّيات، ولكن لا بديل منه لوقفِ الإنهيار والوصول بالوطن إلى شاطىءِ الأمان.

المؤتمرُ الدولي الثالث لدعمِ لبنان والشعب اللبناني، الذي نظّمته فرنسا والأمم المتحدة، تعهّد فيه المشاركون بتوفيرِ مبلغ ٣٧٠ مليون دولار خلال عام، إلى جانبِ مُساعداتٍ عينية أعلن عنها بعض الأطرافِ المُشارِكة وذلك تلبية للحاجات الضرورية والمُلِحّة لبلدٍ على حافةِ الإنهيار. لكن المؤتمر وَجَّهَ رسالةً واضحةً إلى السلطةِ اللبنانية والطبقةِ السياسيّة الحاكمة بضرورةِ ولوجِ بابِ الإصلاحاتِ الضرورية وتشكيلِ حكومةٍ قادرة. الأمر الذي يعني حكومة تكون بمثابة فريقِ عملٍ مُتجانِس، حاملةً لرؤيةٍ واضحةٍ وخطّةِ عملٍ مُتكامِلةٍ للإصلاح. خطةٌ يبدأ وضعُها مَوضِعَ التنفيذِ حالَ تشكيل الحكومة،، بُغيةَ إطلاقِ المسار المطلوب للحصول على الدعم الدولي الموعود. فهل تَستَمِرُّ لعبةُ التنافسِ الحاد على مَغانمِ السلطة وعلى حسابِ إنقاذِ لبنان، عشية استحقاقاتٍ إنتخابيةٍ مُقبلة، كما نَشهَدُ في “المعارك الدائرة” حولَ مَن يَحصل على هذه الحقيبة الوزارية أو تلك في عملية تشكيل الحكومة؟ يَحصَلُ ذلك طبعاً تحت شعاراتِ وعناوين حقوق الطوائف.

نحنُ نَشهَدُ في حقيقةِ الأمر صراعاتٍ على حسابِ الوطن، وبالتالي على حسابِ كافةِ المُواطنين أيّاً كانت انتماءاتهم الطائفية، طالما استمرّ هذا التناحر. فكلُّ يومِ تأخيرٍ في تشكيل الحكومة المطلوب تشكيلها، يزيد في تكلفة عملية الإنقاذ. هذا إذا ما شُكِّلَت الحكومة حسب الشروط المعروفة للإنقاذ، وليس على قاعدةِ المُحاصَصة شبه المُقَنَّعة، وهذا ليس بالأكيد، كما تدلُّ على ذلك الحروب السياسية الدائرة والمُعَطِّلة لتشكيلِ “حكومة الانقاذ”.

تَحَدٍّ آخر شهدناه خلال الأيام الماضية تَمَثَّلَ بالتسخين “المُقَيَّد” أو المُنضَبِط الذي شهده الجنوب اللبناني. بدأ مع إطلاقِ صواريخ من “طرفٍ مَجهولٍ”، قيلَ أنه أحد الفصائل الفلسطينية، على إسرائيل تبعه ردٌّ إسرائيلي، ثم تبادلُ إطلاقِ صواريخ مع “حزب الله”. إشتباكٌ مُقَيَّدٌ في المدّةِ والحَجمِ والأهداف (مناطق غير مأهولة) لم يخرج عن قواعد الاشتباك التي استقرّت وتثَبَّتت عبر الوقت ومنذ ما قبل العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف ٢٠٠٦. البعضُ اعتَبَرَ أن ما حصلَ أخيراً يدخلُ في إطارِ لُعبةِ تبادلِ الرسائل في ظلِّ تصعيدِ المُواجهةِ المُباشَرة وغير المُباشَرة بين إسرائيل وإيران، باعتبارِ أنَّ لبنان جُزءٌ من “مسرحِ مواجهةٍ استراتيجي” إسرائيلي-إيراني واسع. مسرحُ مُواجهةٍ يمتدّ من مياه الخليج إلى مياه المتوسط. ما حَصَلَ أخيراً في  بحر عُمان (ضرب ناقلة نفط بريطانية أساساً كما قيل يملكها إسرائيلي)، وقبلها اعتداء على ناقلة نفط إيرانية في نيسان (إبريل) الماضي في مرفأ  بانياس في سوريا، و”رسائل أُخرى مُتبادَلة ومُشابِهة في البحر.

“مسرحُ مُواجهة” أيضاً يمتدّ برّاً عبر المشرق: من العراق إلى لبنان عبر سوريا التي تشهد ازدياداً في حدّة المواجهة بين الطرفين في الحروب الدائرة على أراضيها نظراً إلى الموقع الاستراتيجي الذي تحتله سوريا في “قلب” المنطقة العربية، وتحديداً في المشرق العربي. تندرج هذه المواجهة في محاولة التاثير في مسار المفاوضات النووية المُتقطّعة وغير المُباشرة بين الولايات  المتحدة وإيران في فيينا تحضيراً للعودة لإحياء الاتفاق النووي (المعروف باتفاق ٥ زائد ١ أو خطة العمل الشاملة المشتركة)، إلى جانبِ المواجهة الدائرة بين واشنطن وطهران في المنطقة، وتلك الدائرة بين إيران وقوى عربية رئيسة. وقد شهدت هذه الأخيرة منذ مطلع هذا العام بعض الإتصالات “الأوَّلية والإستكشافية” بُغيةَ العمل على رأب الصدع في تلك العلاقات.

إن المرحلةُ الإنتقالية أو الرمادية الحالية، التي تشهدُ مُحاولاتً مُباشِرة وبالواسطة للتخفيض من حدّة النزاعات والبدء بتطبيع العلاقات، عادةً ما تدفعُ كلَّ طرفٍ إلى محاولةِ تجميعِ أكبر عددٍ من الأوراق التفاوضية بين يديه لتعزيز موقفه التفاوضي. ولبنان بتركيبته السياسية والمُجتَمعية وهشاشة وضعه وموقعه في مسرح الصراع في الإقليم، أيّاً كانت عناوين الصراعِ وأطرافه، جاذبٌ لدورِ صندوق البريد. الدورُ الذي لعبه دوماً لتوجيه الرسائل في كافة الاتجاهات. فالتفاهُماتُ بين القوى المؤثّرة في الإقليم أمرٌ ضروريٌّ للبنان حتى لا يبقى مُجرّد صندوق بريد في صراعات المنطقة، ولكنه أمرٌ غير كافٍ إذا لم يتمّ تحصين البيت اللبناني من الداخل وبمساعدة ومواكبة من الخارج. فبناءُ الاستقرار الفعلي، وليس الهشّ أو الشكلي والموقّت، بالتالي للبنان أكثر من ضروري لاستقرار المنطقة. وللبنان مصلحة أساسية في حصول انفراجٍ في العلاقات الإقليمية عبر الحوار، أيّاً كان شكلُ هذا الحوار. حوارٌ يؤسّس لتفاهماتٍ على قواعد واضحة تقوم على عدم التدخّل في شؤونِ الآخر تحت أي مسميات أو ذرائع، كما نذكر دائماً، وعلى  بلورةِ أطُرٍ وأُسُسٍ للتعاون على قواعد مُستقرّة تحفظ مصلحة الجميع؛ قواعدٌ تحتوي وتُنظّم الخلافات وتبني على المُشترَك لما فيه من مصلحة للجميع في المنطقة. وإلى أن يحصلَ ذلك، يبقى “المركب” اللبناني في مهبِّ رياح هذه الصراعات المُتَعَدّدةِ الأشكال والدرجات.

إن ترتيبَ البيت اللبناني هو مسؤولية لبنانية أساساً، لكن تحصين هذا “البيت” و”البيوت الأُخرى” التي تشهد الحرائق في المنطقة تستدعي حصول هذه المصالحات /التفاهمات.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب”(لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى