مَأزَقُ الاتفاقِ النَوَوي: عُقَدُ طهران!

محمّد قوّاص*

أن يُعلِنَ المبعوث الأميركي الخاص لشؤون إيران، روبرت مالي، أن إيران تُقحِمُ مَطالِب ليس لها شأنٌ بالنزاع حول الاتفاق النووي، وأن يؤكد وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أن مطالب بلاده هي من صلبِ هذا النزاع، فذلك “حوار طرشان” لا يوحي بأن البلدين قطعا شوطًا كبيرًا من مفاوضات بدأت في نيسان (إبريل) 2021، ولا يوحي أصلًا بالرغبة، في هذا التوقيت بالذات، بالتوصّل إلى إتفاق.

واللافت أن ديناميةً دوليةً إقليمية أيقظت أخيرًا المفاوضات المُتَوَقِّفة من سبات، وأعطت انطباعًا مُتفائلًا حول قرب توصّل واشنطن وطهران إلى توقيع الصفقة.

راجت أنباءٌ عن جهودٍ ديبلوماسية وسيطة بذلتها سلطنة عُمان وقطر قادت جوزيب بوريل، مُنسّق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، إلى طهران. ولئن حمل الرجل أيضًا أجواءً أميركية جديدة، فأعلن من هناك تحويل مكان المفاوضات من جنيف إلى الدوحة وبشّر باستئنافها، فإن إخفاق تلك المفاوضات بعد ساعات من بدئها في 29 حزيران (يونيو) أثار أسئلة حول تلك “المسرحية” الفاشلة وحيثيّاتها.

والأرجح أن توقيتًا مُلتَبِسًا يَحُولُ دون إتمامِ مُهمّةٍ كان الرئيس الأميركي جو بايدن وَعَدَ بها حين كان مُرشَّحًا للمنصب. ويَحُولُ التوقيتُ أيضًا دون قبولِ إيران بالشروط التي تريدها واشنطن للعودة إلى اتفاق فيينا لعام 2015.

ليس صحيحًا أنَّ ما يُعَطِّل المفاوضات هو ما قد يَنجمُ عن جولة بايدن في الشرق الأوسط، لا سيما محطته السعودية ولقائه بقادة المملكة واجتماعه في جدّة مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن.

وليس صحيحًا كلّ هذا التهويل عن تحالفاتٍ عسكرية إقليمية لا يبدو أن المنطقة جاهزة لها أو حتى أقامت آليات للوصول إليها.

وإذا ما تأمّلنا المشهد الدولي الكُلّي، فإنه بات لا يمكن الزعم بالقدرة على فصل مفاوضات مجموعة الـ 5+1 مع إيران عن التحوّلات الكبرى التي تُبدّل خرائط العلاقات الدولية بمناسبة الحرب الأوكرانية.

ولا يمكن القفزُ عن هذا الانقسام الجيوستراتيجي داخل هذه المجموعة بالذات بين روسيا والصين من جهة، وبقية أعضاء المجموعة من جهة أخرى.

ولا يُمكِن إغفال ما تطوّرَ في آلياتِ التفاوض من حيث أن ثمارَ الاتفاق النووي سوف تندرج داخل موازين القوى الجديدة سواء بين المجموعة الغربية أو ما سيمتَدّ إليه تحالف روسيا والصين لدى دول العالم، وإيران جُزءٌ من هذا التمدّد المأمول.

تُطالب إيران برفع الحرس الثوري عن لوائح الإرهاب الأميركية. يمتلك الحرس مئات الشركات الإيرانية الكُبرى ويُهَيمِنُ على النسبة الأكبر من الاقتصاد الإيراني. بمعنى آخر، فإن بقاء “الحرس” على “اللوائح” سيحرم تلك الشركات من الاستفادة من المنافع الاقتصادية والاستثمارية للإتفاق.

ومع ذلك كرّرت طهران التلميح، وحتى على لسان وزير خارجيتها، إلى “تعفّف” الحرس الثوري واستعداده للتضحية بهذا المطلب إذا ما كانت مصلحة البلاد تقتضي إبرام الاتفاق.

وجرى أن منابر إيرانية راحت تُوضِحُ أن العُقدة تكمن في سعيّ طهران للحصول على ضماناتٍ اقتصادية تسمح للشركات الدولية بضمان ديمومة أي اتفاق قبل المخاطرة بأيِّ استثماراتٍ داخل إيران، وأن هذه الضمانات تشمل عدم انقلاب أي إدارة أميركية مقبلة في البيت الأبيض على الاتفاق المُحَدَّث.

لن ترفع واشنطن “الحرس” عن لوائح الإرهاب، على الأقل في هذا التوقيت. ولا يستطيع البيت الأبيض فَرضَ أيّ اتفاق تبرمه مع أي دولة على الإدارات اللاحقة وإلزامها به.

لكن “حوار الطرشان” مُستَمِرّ، من حيث خضوع إدارة بايدن للضغوط الداخلية، بما في ذلك من داخل الحزب الديموقراطي، بعدم التوقيع على أيِّ اتفاقٍ لا يضمن بشكلٍ حازم وحاسم عدم تطوير إيران للقنبلة النووية، ومن حيث مُراعاة الضغوط التي مارستها إسرائيل والحلفاء العرب، كلٌّ وفق أجندته، لوقفِ مسلّمة الأخطار التي تهدد بها إيران استقرار دول المنطقة.

وإذا ما كانت الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة في الخريف المقبل تُجبِرُ بايدن وفريقه على الإذعان للضغوط البيتية، فإن العوامل الإقليمية، وعلى عكس المرحلة التي أجرت فيها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما مفاوضاتها مع طهران، باتت شرطًا بنيويًا لا يمكن لأي نسخة جديدة للاتفاق النووي أن  تُنجَز دون أخذه جدّيًا بعين الاعتبار.

ولئن استنتجت طهران مُرغَمَةً عُقدة المكانة الوازنة لمصالح المنطقة كشرطٍ لإعادة تفعيل الاتفاق العتيد، فإنها حاولت، من خلال “حوار بغداد” السعودي-الإيراني برعاية رئيس الحكومة العراقي مصطفى الكاظمي، الإيحاء برغبتها في تلفيقِ تطبيعٍ مع دول الخليج من بوابة الرياض بالإمكان تسويقه على طاولة المفاوضات.

وعلى الرغم من الحديث عن تقدّمٍ نوعي في محادثات البلدين، وعلى الرغم من همّة الكاظمي أخيرًا لإنقاذها من رتابة وركود، إلّا أن السعودية ودول الخليج لم تستنتج أيّ تحوّلٍ نوعي في سياسات إيران ترتقي بالعلاقات الإيرانية-الخليجية إلى مستوياتِ التطبيع والعادية والتعاون.

والمُعادَلة العصيّة تكمن، ومنذ المقاربة الأوبامية، في أن إيران ما زالت، وفق عُقدها الايديولوجية، مُتَمسّكة بأولوية الاتفاق النووي وما ينطوي عليه من تفاهماتٍ مع واشنطن كأمرٍ واقعٍ لنسجِ علاقاتٍ مع المنطقة عامة والخليج خاصة. وعلى هذا ما زال الحاكم في إيران لا يستسيغ اتفاقًا مع القوى الدولية يكون شرطُه هذه المرة تسوياتٍ إقليمية وترتيبَ العلاقة مع الجوار.

والواضح أن أيَّ اتفاقٍ ناجعٍ وجدّي مع إيران يتطلّب تخلّي طهران عن عُقَدِها والقبول بطبيعة جديدة تجعل منها دولة مُتجرّدة من أثقال “الثورة” وتصديرها. صحيح أن الانتهازية الدولية قد تدفع باتجاه اتفاق يصبّ لصالح المنافع وأخلاق “البزنس”، لكن حياة وديمومة أي اتفاق يحتاج إلى إسقاط طهران لعُقَدٍ يصعب خلع عباءاتها.

على “البزنس” تُعوّل إيران كثيرًا. أزمة الطاقة في العالم هذه الأيام والحاجة إلى تلك التي تنتجها إيران، تدفع الأخيرة إلى التدلّل لعلَّ في انتهازية هذا التطوّر ما يحمي عُقَد طهران ويصون ديمومتها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى