سنة كلّ المخاطر

راشد فايد*

لا يليق وداع السنة الآفلة من دون التأمّل بما خلّفت في حياتنا، وما حفرت من ذكريات الخيبات لا سيما أنها جاءت على أنقاض مرفإِ بيروت، مع كل ما يحيل تفجيره، أو انفجاره، أو قصفه، من تداعيات سلبية في المجتمع اللصيق أو البعيد، وفي الإقتصاد والبيئة وفي مكانة البلد ودوره. صحيح أن لبنان فقد التفاؤل بالآتي منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي حمل معه “وصفة” السعادة للوطن وأهله، لكنه لم يفترض أن أسوأ الأيام ما زالت تتلطّى خلف الليرة والوقود، وعند باب المستشفى والصيدلية، وكذا المدرسة والفرن.

يُذكّرنا ما انتهت إليه هذه السنة بكتاب المؤرخ الدكتور كمال الصليبي “بيت بمنازل كثيرة” الذي تناول فيه تاريخ لبنان منذ 150 سنة، وحتى الحرب اللبنانية- الإقليمية – الدولية (1975-1989) على أرضه، وما انطوت عليه من نزاعٍ مُسلّحٍ ناقض في وحشيته كل ما كان يُنسب إلى اللبنانيين من ليبرالية وتسامح، وتفضيل التفاهم بالوسائل التقليدية على التزمّت والتعصّب.

يُقدّم كمال الصليبي صورة لما كان عليه الحال إبّان الحرب التي اندلعت قبل نحو 50 سنة لا تختلف عما نعيش اليوم، بل تبدو أقل قساوة وفجاجة. يقول عن تلك الفترة: “ما زالت الجمهورية اللبنانية قائمة، من الناحية الرسمية، داخل حدودها الدولية المعترف بها، وكذلك بنية الدولة بكامل أجهزتها الحكومية التي لم تُمَس، إلّا أن هذه الدولة قد توقّفت منذ زمن عن ممارسة سيادتها وسيطرتها على البلاد، وما تبقّى منها، في الواقع ليس إلّا أجهزة إدارية ما زالت تقدم غطاء من الشرعية للإجراءات العامة والخاصة، وحدًّا أدنى من الخدمات العامة تتدهور في مستواها يومًا بعد يوم… والمواطنون متروكون ليتدبّروا أمورهم بأنفسهم في ظل حكم العصابات…، ومنها من نجح، إلى حد ما في القيام بما يشبه مهام الدولة بشكلٍ مُنظَّم وفاعل…”.

عاد الكتاب إلى الذاكرة لأن لبنان اليوم هو نفسه لبنان قبل 150 سنة في عهد القائمقاميتين وما قبلهما وليس إلّا مجموعة من زعماء العشائر والطوائف القبليين الذين يحكمون بغطاء من السلطة القائمة كما كان الحال وقت الدولة العثمانية أو بدعم خارجي كفرنسا وبريطانيا لاحقًا والسعودية والولايات المتحدة وأوروبا وايران وغيرها حاليًا. الفارق بين حال لبنان سابقًا وحاله اليوم، أن قوى المرحلة السابقة لم تكن تتنكّر للبنان، كوطنٍ وهوية، ولم يكن تقسيمه الذي شاع الكلام، أيامها فيه، أمرًا مُسلّمًا به، بدليل عدم النقاش فيه في “مؤتمر الطائف” الذي أوقف الحرب. أما القوى الراهنة، وهي تحديدُا “حزب الله”، فإنها لم تعلن يوما تراجعها عن سعيها إلى أن يكون لبنان جُزءًا من “الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، ولم تحاول تأويله، ولم يسألها حليفها “التيار الوطني” يومًا عن مصيره.

لكن برغم وطأة السنة الراحلة، ستبدو أقل إيلامًا من خليفتها، “سنة كل المخاطر”، بدءًا بتوصية وزارة الدفاع الفرنسية التعجيل بإرسال قوات دولية الى لبنان، برعاية الأمم المتحدة، والبنك الدولي، لمضاعفة التدخّل الإنساني وإجراء الانتخابات النيابية بطريقة ديموقراطية، لأن “لبنان الزمن الغابر” قد انتهى ومن واجب فرنسا أن ترعى انبعاثه.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى