جان عبيد: الديبلوماسي الراقي

جان عبيد: وداعاً “وزير خارجية العرب”.

 

بقلم السفير يوسف صدقة*

فَقَدَ لبنان، بوفاة النائب جان عبيد، قامةً وطنية نادرة، كان نسيج وحدة في الحوار والإعتدال والإيمان الحقيقي بالعيش المشترك الإسلامي–المسيحي.

كان يعتبر التطرف الطائفي خروجاً عن المبادئ المسيحية والإسلامية، وأن الأنماط الغربية في فلسفة التفوّق على الشرق وإحياء الشرخ الحضاري، هي فلسفة لا تعبّر بشكل صحيح عن تاريخ الشرق والإسلام. وفي ذروة التأزّم في المراحل التاريخية، التي مرّ بها لبنان في السنوات الأخيرة، كان يحتفظ بالأمل والإيمان بقدرة اللبنانيين على تجاوز الأزمات، فهو يؤمن أن الوطن يُصان بالحوار والإنفتاح والأفكار النيّرة المُستَندة إلى التجربة اللبنانية، والمفاهيم الحقيقية للمسيحية والإسلام، وأهمية العودة إلى روحية الميثاق الوطني.

رافقتُ الوزير عبيد في أثناء توليه مهام وزارة الخارجية في العامين 2003 و2004 في 15 مهمة رسمية مع السفير بسام نعماني في الخارج، حيث زرنا خلالها جميع دول الخليج العربي وإيران ومصر وتركيا وبنين، وقد نهلتُ من ثقافته وأدبه وديبلوماسيته الرفيعة الكثير. فكان رسول المحبة والثقافة اللبنانية إلى العالم. وقد تعلمتُ منه أن هناك ثلاث مقاربات للتحدّث مع المسؤولين في الدول العربية والدول الأخرى. لغةٌ مع الملوك والرؤساء، وهي تتضمّن خطاباً يُهيمن عليه الكلام العام والحديث عن العلاقات الثنائية والوجدانيات وعدم التطرق إلى هدف الزيارة إلّا بالعناوين. ولغةٌ ثانية مع رؤساء الحكومات والأمراء، وتتضّمن الحديث عن العلاقات الثنائية والتطرق إلى الملفات المطروحة مع بعض التفاصيل. أما الهدف الرئيس للزيارة فيتحدث فيها بلغة براغمائية وعملية وبالتفاصيل مع نظيره وزير الخارجية في الدولة المعنية.

وقد نال الوزير عبيد إعجاب المسؤولين العرب بثقافته الواسعة ومعرفته بالقرآن الكريم وبشعر المتنبي. وسأذكر بعض تجليات الوزير عبيد في لقاءين مع ولي العهد السعودي الراحل الأمير (آنذاك) عبدالله بن عبد العزيز ورئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية محمد خاتمي.

تحدث الوزير عبيد مع الأول عن العلاقات التاريخية الحميمة التي تربط السعودية ولبنان منذ أمدٍ بعيد، من الملك عبد العزيز إلى الملك فيصل، وقد اعتبر ان الأزمة التي يمّر بها العالم المعاصر، هي العلوّ في الدين، وقد ذكر له عن التعايش في لبنان، فالمرأة المُحَجَّبة تمشي إلى جانب المرأة السافرة، ولا تسأل الواحدة الأخرى لماذا لم تلبس الحجاب وبالعكس. وقد روى للأمير عبدالله لقاءه مع وزير التربية في فرنسا آنذاك “فرنسوا بايرو” (Francois Bayrou)، وقد طرح عليه السؤال: كيف تثورون على المرأة المُحجَّبة، فيما في لبنان تتعايش المرأة المحجبة والسافرة بدون أي مشكلة.

أما الأمير عبدالله، الذي صار ملكاً بعدها، وقد شده الحنين إلى لبنان، فتحدث عن ذكرياته أيام الشباب في لبنان، وعن جمال طبيعته وكرم  أبنائه، ورؤيته لتطوير المملكة العربية السعودية إزاء التحديات في الداخل والخارج.

أما الزيارة الثانية، فكانت للجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث قابل الوفد اللبناني الرئيس محمد خاتمي: “هذا هو لبنان، كلنا من جميع الطوائف في خدمة وطننا لبنان”. وقد جرى الحوار باللغة العربية، حيث ناقش الوزير عبيد أفكار خاتمي الذي أكد على وحدة المذاهب الإسلامية وأهمية الإنفتاح على الأديان الأخرى، وقد ثمّن خاتمي التعايش الإسلامي – المسيحي في لبنان واعتبر بلد الأرز مركزاً لتفاعل الحضارات.

أما الخبر الأحب إليه، فكان جامعة الدول العربية في إجتماعات وزراء الخارجية في دورات مجلس الجامعة، فكان خطابه محط أنظار جميع الوزراء، لما تضمّن من بلاغة وحصافة وديبلوماسية راقية، حيث أطلق عليه وزير الخارجية السعودية الراحل الأمير سعود الفيصل لقب “وزير خارجية العرب”.

على صعيد آخر أدخل عرفاً جديداً إلى مجلس الوزراء، تمثل بتزويد المجلس تقريراً عن كل زيارة يقوم بها إلى الخارج.

لا يمكنني في بعض الكلمات أن أفي الرجل حقه في السياسة والديبلوماسية والثقافة. وحسبي أنه في السماء يرتاح مطمئناً إلى وزنات وفيرة، جمعها بعرق القلب، وقدّمها حبات بركة على بيادر المحبة والعلم والثقافة، مسلماً ودائعه مرتاحاً إلى الباري خالق السموات والأرض.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى