يا مَحلى لبنان 1920 ومَحضَر الضبط في زوق مكايل

هنري زغيب*

أَفتحُ سجلَّ بلدية زوق مكايل سنة 1920، وأَقرأُ حرفيًّا: “في جلسةٍ بلديةٍ برئاسة فارس شيبان بويز نهار 14 تشرين الأَول/أكتوبر 1920، اطَّلع المجلس على تقريرٍ للشرطيّ البلديّ جاء فيه: “إِنَّهُ ليلة الأَحد الواقع 3 الجاري، الساعة السابعة مساءً،  كان العربجي سائقًا عرَبَتَه في السوق بسرعة زايدة وبدُون نور. اعترضَه بوليس البلدية، ونبَّهَهُ على أَنه يسير بعربته في السوق بدون تنوير قناديلِها. فأَجابه العربجي أَنه لا ينوِّر القناديل لأَن سوق القرية بَهَرهُ. ولَما كان عملُه مخالفًا لأَوامر البلدية وقراراتها، قرَّر أَعضاء المجلس البلدي بالاتفاق تغريمَه نصف ليرة سورية”… كان هذا في زوق مكايل قبل 105 سنوات.

قبل ثلاث عشرة سنة (2012) صدر قانونُ السير، وفيه بنودٌ واضحةٌ تتعلَّق بشَبَكَتَي الطرق العامة والفرعية، صيانةً وتأْهيلًا، بما يخصُّ الأَرصفةَ، والإِنارةَ، ووضعَ الإِشارات العاكسة، وإِجراءَ دوراتٍ تدريبية لعناصر الشرطة البلدية، وضرورةَ قيام المواطن اللبناني بمعاينة مَركبَتِه، وملاحقةَ تجاوُز الإِشارات الضوئية، والسيرَ عكس الاتجاه، واستعمالَ الخَلَوي، ومنْعَ السرعةِ والحمولةِ الزائدة، ورفضَ الوساطة السياسية”.

السنة الماضية (11 كانون الثاني/يناير 2024) أَصدَرَت مؤَسسة “Global Positioning Specialists” تقريرَها السنويَّ، وفيه أَنَّ لبنان على رأْس أَخطر البلدان في العالم لقيادة السيارات، استنادًا إِلى ثلاثة مؤَشِّرات: جودة الطرقات، عدد الوفيات في حوادث السير، وإِحصاءات جرائم سرقة السيارات. وحلَّت بعد لبنان الأُوروغواي وكولومبيا.

هذه السنة، قبل أَسابيع، أَصدرَت المؤَسسة ذاتُها تقريرَها السنويَّ، وفيه أَنَّ لبنان حلَّ ثالثًا بين أَكثر البلدان في العالَم تَهَوُّرًا في قيادة السيارات. وفي اللائحة معه: تايلند، والهند، وماليزيا، والبيرو. وهو حلَّ الأَول بين الدول العربية في خطَر التهَوُّر.

طبعًا لسنا في حاجة إِلى هذا التصنيف، كي نعي الخطرَ الذي يترصَّدُنا يوميًّا حالَما نقود سيارتنا على الطرقات العامة، بسبب انعدامِ السلامة المرورية، وما يهدِّدها من القيادةِ الزيكزاكية بين صفوف السيارات، والسرعةِ المتهوِّرةِ من سائق أَرعنَ متهوِّر، وتجاوزِ الإِشارات الضوئية بكل وقاحة، عدا دبابيرِ الموتوسيكلات حولنا وأَمامنا ووراءَنا وبيننا، وقلَّةِ أَخلاق مَن يقودونها معرضينَنَا لخطر صدمهم، أَو مُطْلقين رعونتَهم بصدمنا… بعد غيابٍ مطَّاطٍ طويلٍ لرجال شرطة السير على الطرقات، عُدنا نشاهدُ بعضهم، بأَعداد خجولة، ومن دون أَيِّ فاعليةٍ زاجرةٍ أَو مستوقفةٍ أَو معاقِبة. لذا لم يتغَيَّر الأَمر، ولم يَزُلِ الخطر.

ودِدْتُني لا أَكون متشائمًا. لكنَّ الخطرَ اليوميَّ داهم، وحوادثَ السيرِ الفاجعةَ والـمُفجعةَ تملأُ صفحاتِ الصحف وشاشاتِ التواصل الإِلكتروني، وجنونَ السرعةِ الكارثيةِ يصعقُنا نهارًا وعلى الأَخصِّ ليلًا، فلا مراقبةَ على الطرقات، ولا رادار يخيف المتهوِّرين، ولا رادعَ بوليسيًّا يراقبُ أَو ينبِّه أَو يعاقب. وإِذا كانت مقولةُ “كرم على درب” تدلُّ على استباحة المارِّين الكرْمَ قطْفًا من دون ناطور، فالخطرُ من غياب الناطور يستبيحُنا كلَّ يوم، والمستشفى ينتظرُنا كلَّ يوم، والصليبُ الأَحمر متأَهِّبٌ كلَّ يوم، والموتُ على الطرقات يترصَّدُنا ليصطادَنا كلَّ يوم.

فيا سعدَ من يغادرُ بيته صباحًا وينعمُ بعودته سالِمًا عند المساء. ويا ما أُحيلى لبنان 1920 ومحضرَ مخالَفةٍ في زوق مكايل لعربجي في سوق الزوق يقودُ بسرعةٍ زائدةٍ عربتَهُ، ولَم يُشعلْ مَصابيحَها.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى