الهُدوءُ في غزّة يُحَرِّكُ مسارات السلام!
هُدى الحُسَيني*
تبدو المنطقة أمامَ لحظةِ تحوّلٍ استثنائية يصفها جنرالات أميركيون مُتابعون للشأنِ العسكري الإقليمي بأنها بمثابة “تغيُّرٍ جذري” في موازين القوى بالشرق الأوسط. فإسرائيل، التي تخوضُ معاركَ مُتزامنة على أكثر من جبهة، تُحاولُ استثمارَ اللحظة الراهنة لتقويض نفوذ “محور المُمانعة” وأذرعه المسلّحة، من غزة إلى لبنان وصولًا إلى اليمن. هذه الصورة التي يُقدّمها الجنرال الأميركي المتقاعد جاك كين (نائب رئيس أركان الجيش الأميركي بين 1999 و2003 ورئيس معهد دراسة الحرب سابقًا) تعكسُ شعورًا مُتناميًا داخل الدوائر الغربية والإسرائيلية بأنَّ المواجهات الحالية، رُغمَ قسوتها وكلفتها البشرية العالية، قد تفتحُ نافذةً نادرة لإعادة رسم المشهد الأمني والسياسي في المنطقة لعقودٍ طويلة مقبلة.
كين، الذي عاد مؤخّرًا من لقاءاتٍ مُكثَّفة في إسرائيل، شملت رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ورئيس الدولة إسحاق هرتسوغ وقيادات في الجيش، يرى أنَّ تل أبيب استطاعت توجيهَ ضرباتٍ مُؤلمة إلى جبهات نفوذ “محور الممانعة”. فـ”حزب الله”، وفق وصفه، “جرى شلّه بالكامل” عبر سلسلةٍ من الغارات الجوية التي منعت إعادة بناء قواعده في جنوب لبنان. أما الحوثيون، فهجماتهم لم تتجاوز إطار “المُضايقات” عبر طائراتٍ مُسيَّرة وصواريخ مُتفرِّقة، في وقتٍ تُواصل إسرائيل ضربَ مواقعهم الحيوية داخل اليمن، مُستهدفةً البنية التحتية التي يعتمدون عليها لوجيستيًا وعسكريًا. وفي غزة، جاء التوصُّل إلى اتفاقٍ يفضي إلى تحرير الأسرى، غير أنَّ الشكوك تبقى قائمة حيال استعداد حركة “حماس” للتخلّي عن سلطتها، وهو ما يُشكّل العقدة الأساسية أمام أي تسوية سياسية شاملة.
لكن المُعضِلة الأكبر أمام إسرائيل ليست فقط في المواجهة المباشرة مع هذه التنظيمات، بل في قدرتها على الاستمرار من دون الارتهان الكامل لواشنطن. الجنرال كين شدّدَ على أنَّ الدرسَ الأول الذي ينبغي استخلاصه هو عدم السماح مُجدَّدًا بتمركز وكلاء “محور الممانعة” على حدودها، والدرس الثاني هو بناء استقلالية عسكرية أكبر عن الولايات المتحدة. ذلك أنَّ تقلّباتَ السياسة الأميركية بين إداراتٍ مختلفة جعلت إسرائيل عُرضةً لمستوياتٍ مُتفاوتة من الدعم العسكري، وهو ما دفع كين إلى دعوة قادتها لتأمين احتياجاتهم الأساسية بأنفسهم، مع الحفاظ في الوقت نفسه على الغطاء الديبلوماسي والأخلاقي الأميركي الذي يبقى عنصرًا لا غنى عنه.
المُثيرُ هو أنَّ التحوُّلات لم تتوقف عند حدود الصراع مع غزة ولبنان واليمن. فالمشهدُ الإقليمي يتبدّل بوتيرةٍ سريعة وغير مُتَوَقَّعة. سوريا، بعد سقوط نظام بشار الأسد وصعود أحمد الشرع، باتت ساحةَ تفاوضٍ جديدة بين تل أبيب والسلطة الناشئة. وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر يقود محادثات مع النظام السوري لإرساء تفاهُماتٍ أمنية، وسط تمسُّك الجيش الإسرائيلي بمواقعه الدفاعية في الداخل السوري. ورُغمَ المخاوف من خلفية الشرع، يرى الإسرائيليون في هذه المفاوضات فُرصةً لتثبيت خطوط حمراء تَحُولُ دون تسلُّل أيِّ فصيلٍ مسلّح نحو الجنوب.
اللافت أيضًا هو استمرارُ الاهتمام العربي بالسلام رُغمَ الحربِ الطويلة في غزة والهجمات المُتفرِّقة ضد المصالح العربية. فقياداتٌ إسرائيلية نقلت انطباعاتٍ تُفيدُ بأنَّ دولًا عربية عدة ما زالت تنظُرُ إلى اتفاقات السلام بوصفها ركيزةً لمستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا اقتصاديًا، حتى وإن تعرّضت لانتكاساتٍ ظرفية. ومن شأنِ أيِّ تهدئة في غزة أن تفتحَ البابَ أمام استئناف هذه المسارات، وهو احتمالٌ يُراهِنُ عليه كثيرون في تل أبيب وواشنطن على السواء، لا سيما أنه يُتيحُ إقامة مشاريع تنموية عابرة للحدود قد تُخفّفُ من جذور التوتّر.
أما تركيا، فتُمثّلُ في نظر كين مُعضِلةً مُزدوجة. الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان، الذي لعب دورًا في وصول الشرع إلى السلطة في سوريا، ما زالَ مُعاديًا لإسرائيل، لكن وزنه العسكري داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) يجعله رقمًا صعبًا لا يُمكنُ تجاوزه. الولايات المتحدة تُحاولُ جذبه بعيدًا عن روسيا من خلال اتفاقات لبناء مفاعلات نووية صغيرة وكبيرة، وهو مسارٌ قد يفتح نافذة لتقليل التقارب التركي من موسكو وبكين. الاحتمالُ المَطروح هنا أنَّ تجاهُلَ أنقرة سيُعزّزُ تموضعها في المحور الروسي-الصيني، فيما الانخراط معها ولو بحذرٍ قد يخلق توازنًا جديدًا يصبُّ في مصلحة واشنطن وتل أبيب.
في الجانب الآخر من المشهد، يبقى الصراعُ الروسي-الأوكراني عاملًا مؤثّرًا في حسابات واشنطن. الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي كان يُعوّلُ على علاقةٍ شخصية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتحقيق انفراج، بات مُقتنعًا الآن بأنَّ موسكو تُماطِلُ وتكذب فيما تواصل تصعيدها العسكري ضد البنية التحتية الأوكرانية والمدن الكبرى. ووفق تقييم كين، لم يَعُد أمام البيت الأبيض سوى خيارَين: إما رفع مستوى الضغط العسكري عبر السماح لكييف باستخدام أسلحة بعيدة المدى ضد الداخل الروسي، وقد بدأ هذا يحصل، أو تشديد العقوبات الاقتصادية على صادرات الطاقة الروسية التي ما زال الأوروبيون يشترونها رُغمَ دعوات التوقُّف المتكررة. وإذا لم يتحقق ذلك، فقد تزداد ثقة بوتين بقدرته على استنزاف الغرب، الأمر الذي سيؤثر بدوره في أولويات الدعم الأميركي لإسرائيل وحلفائها في الشرق الأوسط.
كلُّ هذه المسارات تجعلُ من المرحلة الحالية منعطفًا حسّاسًا. فإسرائيل تمتلك، وفق رؤية كين، “نافذة ذهبية” لتصفية نفوذ “محور الممانعة” في محيطها القريب، لكن هذه النافذة قد تضيق سريعًا إذا تراجعت الإدارة الأميركية في الاستمرار بالضغط أو إذا فشلت الجهود الديبلوماسية في غزة وسوريا ولبنان. الاحتمال قائم بأن يستغلَّ هذا المحور أيَّ تراخٍ لإعادة تموضع وكلائه، كما إنَّ استمرارَ التعقيدات في الحرب الأوكرانية قد يستهلك جُزءًا كبيرًا من زخم الدعم الغربي للمنطقة. في المقابل، إذا جرى تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، يتبعه ترتيب أمني تشارك فيه أطراف عربية، وإذا تقدمت خطوات التطبيع رُغمَ التحديات، فقد يجد الشرق الأوسط نفسه أقرب إلى استقرارٍ طالَ انتظاره، مع احتمالات تحسُّن اقتصادات المنطقة بفعل المناخ الجديد.
بين هذه السيناريوهات، يبقى المؤكّد أنَّ لحظة التحوُّل التي يشهدها الإقليم اليوم لن تمرَّ من دون أن تترك آثارًا عميقة، سواء نحو سلام هشّ أو نحو جولة أخرى من الصراع الممتد الذي قد يفرض وقائع جديدة على الأرض.
- هُدى الحُسَيني هي صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، تعملُ في صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية. عملت سابقًا في صحفٍ ومجلّات عدة منها: “الأنوار” في بيروت، و”النهار العربي والدولي” و”الوطن العربي” في باريس، و”الحوادث” و”الصياد” في لندن. غطّت حربَ المجاهدين في أفغانستان، والثورة الإيرانية، والحرب الليبية-التشادية، وعملية “الفالاشا” في السودان وإثيوبيا، وحرب الخليج الأولى. حاورت زعماءَ دول عربية وأجنبية عديدين بينهم الإمام روح الله الخميني (الذي رافقته على الطائرة التي نقلته من باريس إلى طهران) والملك الحسن الثاني والرئيس صدام حسين والرئيس ياسر عرفات والرئيس جعفر النميري والرئيس الأوغندي عيدي أمين. …
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره في صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية.