عظمةُ لبنان في العالَم؟ مُهاجرُوه لا دولته

هنري زغيب*

أَبلغُ ما قرأْتُ أَخيرًا (وسْطَ ثرثرة سياسيين معارضين اقتراعَ اللبنانيين في الـمَهاجر لجميع مقاعد نوابهم) مقالُ الدكتور فيليب سالم مطلعَ هذا الأُسبوع في “أَسواق العرَب” (الإِثنين 4 تشرين الثاني/نوفمبر)، وخصوصًا قولَتُه: “نُذكِّرُ الدولةَ بأَنَّ اللبنانيين المنتشرين هُمْ مَن دعَموا صمودَ المقيمين إِبَّان الانهيار السياسي والاقتصادي، وهُم مَن أَعطَوا لبنان صورةَ عظَمته. فالعالَم يعرف لبنان العظيم من سُطُوع أَبنائه المنتشرين… عظمةُ لبنان هي في تاريخه وفي انتشاره، ولم تكُن يومًا في دولته… والحروبُ التي شهِدَها لبنان، طوال نصف القرن الماضي، كانت من ضعْف الحكْم في لبنان، وعجْزه عن بلورة القرار السياسي السيادي الواحد”.

إِذًا، أَيضًا وأَيضًا، عظمةُ لبنان الوطن يشكِّلُها جناحان: مقيمٌ فيه يُبْدعُ على أَرضه ويشعُّ منها على العالَم، ومهاجرٌ منه يُبدعُ في وطن الآخرين ويشعُّ به وطنُهُ لبنان. وفي هذَين الإِشعاع والإِبداع لا فضلَ لدولته المشغولةِ بمشاكلها وتهافُتِ المتصاغرين من سياسييها على تمتين وارثيهم في شرايين الدولة، من دون أَيِّ اعتبارٍ لنهضة الدولة بالترفُّع عن تَعَنْعُنِهم وتصاغُرِهم وتَحاقُرِهم الهدَّام.

من هنا ما أُكرِّره دومًا عن الفَرق بين لبنان الوطن ولبنان الدولة (“أَسواق العرب”-12 أَيلول/سبتمبر 2025): جغرافياهُ وديموغرافياهُ تُحَدِّدان “الدولة” اللبنانية فقط ولا تشمل فضاء “الوطن” اللبناني المتَّسع إِلى مُهاجريه في أَقطار الدنيا، وهذه خصيصَتُه العبقرية. وإِذا الدولةُ مُغْلَقَةٌ محصُورةٌ في ما سوى مساحتِها، فالوطنُ مفتوحٌ على مَهاجرَ لبنانيةٍ ترَكَ فيها اللبنانيون آثارًا وحضارةً، وله فيها أَعلامٌ مُهاجرون تَعتزُّ بهم دوَلُ استضافَتِهم على أَرضها (ولو جنَّسَتْهُم) كما يعتزُّ بهم لبنانُ الأَرض الأُم. لبنانُ الـمُهاجر؟ أَعلامُه يعمَلون هناك وينبُضُون هنا. يعيشُون هناك ويَحيَوْن هنا. انتماؤُهم إِلى هنا. وَلاؤُهم في الها هُنا. يخطِّطون للعودة، موسميًّا أَو نهائيًا. هاجَرُوا ليعودُوا ولم يَهْجُرُوا ليَغيبُوا (هنا الفرقُ بين “هَجَرَ” و”هاجَرَ”، بين “هاجِر” و”مُهاجِر”). وطنُهم الكبيرُ، هنا وثَـمَّ، ليس مِنَّةً من أَحدٍ، لا من دولةٍ ولا من قرارٍ أُمَميٍّ، بل هو من عبْقريةِ أَبنائه المقيمين والمهاجرين، حفَداءِ تُراثه وإِرثه الساطع في التاريخ منذ فجر التاريخ. هذا هو الوطنُ الخالدُ الذي نَنْتَسبُ إِليه، ونَفيْءُ إِليه، ونَنْتَمي إِليه آمنين، حين تَسُوْءُ دولتُه وتُسِيْءُ سلطتُه.

وكما الأَجانبُ عندنا يقصدون سفارات بلدانهم ليقترعوا، غيرَ مقيَّدين بعددٍ محدود من مرشحيهم، هكذا لبنانيُّونا هناك: طبيعيٌّ أَن يُصَوِّتُوا هناك لِمن يشاؤُون، كأَنهم يُصَوِّتُون هنا لِمن يشاؤُون، شرط أَلَّا يمنحوا أَصواتهم هناك لِمرشَّحين جهَلَة مستزلمين مأْجورين أُمِّيِّي حضارة، بل لِمن يستحقُّون من جميع الطوائف أَن يُشَكِّلوا سُلْطةً تجترحُ دولةً رؤْيَويَّةً على مستوى عظَمة لبنان. عندئذٍ، بعد أَيار/مايو 2026 (موعد الانتخابات النيابية اللبنانية)، يكون لنا سياسيُّون واعون أَهميةَ لبنان التاريخية والحضارية (مقالي في “أَسواق العرَب”-18 نيسان/أبريل 2025). فالتاريخُ والحضارةُ جناحا حُكْمٍ رؤْيويٍّ يعرف أَنَّ خلُود الوطن في ذاكرة التاريخ لا يَنسُجُهُ زَبَدُ السياسة والسياسيين بل لؤْلُؤُ الثقافة والمبْدعين، مُقيميهم والـمُهاجرين. الحُكْم الرؤْيويُّ يُدركُ أَنَّ مجدَ وطنه هو بالثقافة والإِبداع، ويعي أَهميةَ المثقَّفين والمبدعين في خلود الوطن، ويتصرَّف بأَنَّ مجدَ وطنه ليس من سياسييه العابرين كالغيم العابر، بل من مبدعيه الخالدين بآثارهم الخالدة. هكذا الحُكْمُ الرؤْيويُّ يوظِّف الدولةَ في خدمة الوطن، والوطنُ سنابلُ مبدعين يكتبون للتاريخ خلودَ هذا الوطن. لبنانُ الـمُهاجر يسْطع في العالَم بجبران وحسن كامل الصباح ورمَّال رمَّال وشارل عشي وأَمين معلوف ومحمد حسين بيضون وكوكبةٍ رائعةٍ من لبنانيين هاجَروا وَولاؤُهم للبنان الوطن لا لقطيع السُلطة، وتاليًا لن يَقْبَلوا أَن يكونوا لبنانيين درجة ثانية لكَونهم خارجَ أَرضهم الأُم. فالأُم تظلُّ أُمَّهم، حولها كانوا أَو في البعيد.

بلى… بلى: يَصْدُقُ فيليب سالم في قَولَتِه “عظمةُ لبنان هي في تاريخه وفي انتشاره، ولم تكُن يومًا في دولته”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى