متى تغسلُ الكرامةُ عارَ المَهانة؟
الدكتور ڤيكتور الزمتر*
تعيشُ دُوَلُ المشرق العربي، مُنذ عامين، مخاضًا دراميًا لم تعرفْ له مثيلًا، دون اكتراثٍ رادعٍ لِما تُحدثُه آلةُ التوحُّش الإسرائيلي، من خدوشٍ لحياء الحسِّ البشري!
تتوالى أحداثُ هذا المخاض، على غير هُدى، في الأرض المُفترض فيها أن تكونَ مُلتقى الإخاء والتسامُح، حيثُ لا يُقامُ وزنٌ لأعرافٍ وشرائع. مشاهدٌ سورياليّةٌ، بكلِّ المقاييس، تُزهَقُ الأرواحُ فيها بلا رحمة، وتُهرَقُ الدماءُ بأعصابٍ باردةٍ ويُحوَّلُ العُمرانُ يبابًا بدون ذرَّة من إنسانيةٍ!
حاكمٌ مُشبَعٌ بالإرث الديني، ومُترعٌ، حتى الثُمالة، من غريزة الحقد ضدَّ شعبٍ، خطيئَتُه أنَّه مُتجذُّرٌ بأرضٍ أوشت المزاعمُ التوراتية، أنَّها “أرضُ الميعاد” المرصودة “للشعب المُختار”!
صحيحٌ أنَّ الكثيرَ من الحُكّام المُستبدّين، قُساة القلوب، قد تناوبوا على حُكم دُوَل المشرق العربي، إلّا إنَّها لم تُنجبْ حُكّامًا بمستوى تطرُّف وعُنْف اليمين الإسرائيلي. ولكن، لم يكنْ للغطرسة الإسرائيلية أنْ تأخُذَ مداها المُتوحِّشَ، لو لم يكُنْ العجزُ العربي قد بلغ ذُراه، وُصولًا إلى التعاون مع العدوِّ اللَّدود. والخطيرُ أنَّ ما بلغَه العربُ من انهزامٍ وانقسامٍ ليس بالأمر العرضي، بل نتيجةً لمحنة العقل البُنْيَويَّة.
مُراجعةُ أداء العرب لقضاياهم المصيرية، تُظهرُ محدوديةَ تمييزهم بين خيرهم وضَيْرِهم، بين صديقهم والمُتربِّص بهم. فخلال هذا الشهر وحده، لم تخجلْ واشنطن أنْ تكونَ الدولةَ الوحيدةَ، التي أفشلت مشروع قرارٍ لمجلس الأمن الدولي، يوم الرابع من أيلول (سبتمبر)، الداعي للوقف الفوري لإطلاق النار في غزَّة، عبر استخدامها حقَّ النقض، مقابل 14 صوتًا مؤيِّدًا لِصُدور القرار.
وبعد خمسة أيّامٍ بالتمام، هاجمت إسرائيل إمارةَ قطر، أقرب حُلفاء واشنطن، لا يشكُّ جاهلٌ بحصول الهجوم، بدون ضوءٍ أميركيٍّ، أقلُّه أصفر، كي لا نقول أخضرَ! وفي الحالتين، الفلسطينية والقطرية، كانت ردَّةُ الفعل العربية مزيدًا من الإرتماء في الحضن الحاضن لجلّاد العرب.
أكثر من ثُلثَيّ أعضاء الأُمم المُتحدة اعترفوا بالدولة الفلسطينية، بمن فيهم أخلصُ حُلَفاء الولايات المُتحدة، وواشنطن تُمعنُ بمُعارضة هذا الحقّ! وعليه، فإنَّ صمتَ العرب على هذه المُعارضة الشرسة، بالتوازي مع مُخطَّط إسرائيل، المُعلَن جهارًا نهارًا، بمنع قيام دولةٍ فلسطينيةٍ، يدلُّ على مُشاركةٍ عربية فاعلةٍ في حرب إبادة تشنُّها إسرائيل، بدعمٍ أميركيٍّ، لا لُبسَ فيه!
وعليه، غدا الحديثُ على العجز العربي عَلْكًا للكلام الفارغ، ومضيعةً للوقت، على قاعدة “فالج لا تُعالج”. لذلك، لا بُدَّ من مُقاربةٍ مُختلفةٍ، بالشكل والمضمون، من مُنطلَق “آخرُ الدواء الكي”، لإخراج العرب من شرنقة الخذلان والهوان. فبالرُّغم من الوضع العربي البائس، من الحكمة عدمُ الإستسلام لفرضية القدَر، بل الإنطلاقُ من مُسلَّماتٍ عديدةٍ، أبرزُها:
- القُوَّةُ العسكريةُ، وحدُها، لاتؤمِّنُ ديمومةً لامبراطوريةٍ مُتسلِّطةٍ، إن لم تكنْ قائمةً على أُسُس الحقّ والعدل والإقتصاد القوي .. وهذا ما يفتقرُ إليه المشروعُ الإسرائيليُ، القائم على الباطل، والمُحاصر بمُحيطٍ مُعادٍ.
- ديمومةُ الكيان الإسرائيلي رهنُ الدعم الخارجي. فمن إيجابيات مصيبة غزَّة سقوطُ القناع عن الوجه العدواني الحقيقي للكيان الإسرائيلي ومشروعه الإستعماري التوسُّعي.
- لدى العالم العربي جميعُ مُقوِّمات النُهوض، التي لا تُحصى، إن تأمَّنَ الوعيُ والقيادةُ الرؤيويةُ الرشيدةُ، المُنبثقةُ من إرادة الشعب الحُرَّة.
- لم تُفلحْ اتفاقات “السلام الإبراهيمي”، في تدجين الرفض العربي والإسلامي الشعبي الكاسح للتطبيع مع إسرائيل، في انفصامٍ فاقعٍ مع الحُكّام العرب، المُطبِّعين علنًا وتحت الطاولة، حفاظًا على كراسيهم.
إنَّ مأساةَ غزَّة، المُندرجة في سياق مشروع بنيامين نتنياهو، لإقامة شرق أوسط جديد، إسرائيليّ الهوى، أفضت إلى ارتسام آفاقٍ إقليميةٍ ودوليةٍ واعدةٍ، نتيجةً طبيعيةً لصَلَف إسرائيل، ولاعتداءاتها على سوريا ولبنان وإيران واليمن وقطر، ما خلقَ ارتيابًا عربيًا وإسلامياً، بأنَّ لا مأمَن لأيَّة دولةٍ من باع إسرائيل الطويل.
وكان طبيعيًا أنْ يُفضي هذا الإرتيابُ إلى تضامُنٍ عربيٍّ إسلاميٍّ، سهَّلَ له تقارُب مصر من تركيا، على قاعدة التعاون لا التصارع، بعد سنواتٍ من الجفاء، على خلفية خلافات أبرزُها مَلَفَّي “الإخوان المُسلمين” وليبيا. ومن حُسن الطالع، ترجمةُ هذا التقارب بمناوراتٍ بحرية وباتفاقاتٍ لتصنيع الطائرات المُسيَّرة، الأمرُ الذي رأى فيها وزيرُ الإعلام الإسرائيلي تطوُّراتٍ مُقلِقةً. وجاءَ التحالُف السعودي-الباكستاني، ليُكملَ “العقد السنّي”، العربي الإسلامي، بأضلُعه الأربعة: السعوديةُ ومصر وتركيا وباكستان .
يتربَّعُ هذا “العقدُ السنّي” على قُدُراتٍ بشريةٍ وماليةٍ واقتصاديةٍ وعسكريةٍ ونوويةٍ من شأنها إرساء ردعٍ استراتيجيٍّ، يُحسبُ له الحسابُ في التوازنات الجيوسياسية الآخذة في التحوُّل، بقدر ما يفرضُ على واشنطن الأخذَ بمصالح دُوَله، مع تنامي اندفاعة الصين في المحيط الإسلامي.
إلّا أنَّ عورةَ هذا التضامن تكمنُ في أنَّ جميع هذه الدُوَلُ محسوبةٌ على واشنطن، ما يطرحُ التساؤلَ عن مدى اقتناعها بقُدرتها على التحرُّر من المظلَّة الأميركية. لقد أضحى واضحًا وُضوحَ الشمس استعدادُ واشنطن للتضحية بأيّ حليفٍ لها، إن تطلَّبت حمايةُ إسرائيل ذلك. كما تأكَّدَت نيَّةُ إسرائيل بالتوسُّع، على حساب جيرانها، طالما استكانوا لعربدتها.
وعليه، يجدُرُ بالدُوَل الأربع الإيمانُ بجدوى شراكتها، حتى إذا ما قويَ عُودُها، ستكونُ رأسَ حربةٍ لمحورٍ عربيٍّ-إسلاميٍّ وازنٍ، لا يستجدي احترامَ مصالحه، بل يفرضُها، ليس فقط على إسرائيل وحدِها، بل أيضًا على رُعاتها.
وما يُعطي بارقةَ أملٍ في تجاوز الحظر الأميركي على مواليه، إقدامُ باكستان، ورُبَّما مصر، على تنويع تسلُّحهما من السوق الصينية. وكان سبق لتركيا وللسعودية أن تباحثتا مع روسيا والصين لعقد صفقات أسلحةٍ دفاعيةٍ، بالرُّغم من المُعارضة الأميركية.
تمضي إسرائيل بالإجهاز على البشر والحجر والشجر في غزَّة، بالتوازي مع قضم أجزاءٍ من الضفة الغربية، على دفعاتٍ، لحرمان الفلسطينيين من أيّ شبرٍ من أرضهم التاريخية. بعد ذلك، ستُواجه القرارَ الصعبَ لليوم التالي: ما العملُ بسكان القطاع المُشرَّدين؟ ثمَّة خياران لا ثالث لهما: البحرُ أو سيناء. وهنا، تقبعُ الأُحجيةُ الكعداء، حيال ردَّة الفعل المصرية، الرافضة، لتاريخه، السماح بتهجير فلسطينيي القطاع إلى سيناء، خوفًا من الشارع المصري، الرافض قطعًا لمبدَإِ التهجير.
ولكن، إذا فشلت القاهرة، لا قدَّرَ اللهُ، بمُقاومة الضغوط والإغراءات الأميركية، لاستقبال المُهَجَّرين الفلسطينيين رغمًا عنهم، لا يُستبعدُ أن ينفجرَ صاعقُ الإحتقان الشعبي، عبر قيام انتفاضاتٍ شعبيةٍ، أو حصول انقلاباتٍ قد تُطيحُ الوضعَ القائم، وتخلطُ الأوراقَ والإتفاقات.
فهل من الهذيان الرهانُ على تحرُّرِ النخوة المُدجَّنة، من قُمْقُم الإنهزام والمهانة؟
حَبَّذا، بعد ليل المُعاناة المُتمادية، لو نصحو على البيان رقم واحد، يزفُّ خبرَ قيام قيادةٍ أبيَّةٍ رؤيويةٍ، ثأرًا للكرامة الجريحة!
- الدكتور ڤيكتور الزمتر هو سفير لبناني سابق.