قراءةُ كلام الأُغنية: استخفافٌ بالجمهور
هنري زغيب*
حين كتبتُ مقالي “زَوغَةُ الساهرين وقَوسُ العازف الحزين” (“أَسواق العرب” الأَحَد 21 أَيلول/سبتمبر الحالي) لم أَكُن أَتوقَّع له هذا الرواجَ بالتعاطف مع العازف الحزين يُطرب الساهرين وهُم لاهون عنه بالْتهام الأَكل من صحونهم وكَرْع الخمر من الكؤُوس.
يقابل هذا العازفَ موسيقيًّا وضْعُ المؤَدِّي غنائيًّا: يُغنِّي للساهرين والساهرون عنه لاهون بصحونهم وكؤُوسهم وأَحاديثهم وضحكاتهم الفاقعة دون احترامِ المغنِّي على المسرح وفرقته الموسيقية. وهنا لا أَلوم الساهرين فقط، لأَنهم أَصلًا جاؤُوا إِلى المطعم لا لحضور فاصلٍ فنيٍّ بل ليُمارسوا فصولَ الالتهام. فلا يلومَنَّهم المغنِّي الذي ارتضى أَن يُقدِّم وصلتَه فيما الطاولاتُ ملأَى بأَنواع المآكل سمَكًا ولحمًا وأَصنافًا شهية، لن يتوقَّف عنها الساهرون كي يُشنِّفوا انتباههم بما يغنيه الأَخ على المسرح، مع ما في هذه الإِشاحة عنه من حزن عميق لأَنه يغنِّي لمن لا يُصْغون إِليه.
إِذًا في الإِشاحة إِهانةٌ وقلةُ احترام: ذاتَ يوم، تقرَّر أَن يأْتي الرئيس التونسي الحبيب بو رقيبة إِلى لبنان في زيارة رسمية. أَراد الرئيس شارل حلو أَن يكرِّمه بأَعلى ما في لبنان من مستوى فنّي، فأَرسل مديرَ غرفة الرئاسة جورج حيمري إِلى عاصي الرحباني كي يُهيِّئَ أُمسيةً خاصةً لفيروز يحضُرها الرئيسان حلو وبورقيبة. وافق عاصي على العرض تكريمًا للضيف الكبير. وحين سأَل عن المكان، أَجابه الحيمري أَنه في فندق فينيسيا. فَرَشَقَهُ عاصي فورًا بالجواب: “بلِّغ تحياتي فخامةَ الرئيس. وقُل له إِن فيروز لا تغني في صالةٍ ملأَى بالطاولات والأَكل وساهرين يشيحون عن المسرح لتغذية بطونهم. بلِّغْه أَني أَرفض العرض نهائيًّا”. هذا الاحترامُ كرَّسه عاصي الرحباني، بأَلَّا تغني فيروز إِلَّا في صالة مسرح. وهو ما جرى في كل مسيرتها على أَكبر مسارح العالم وأَرقاها وأَفخمها.
هكذا الفنان يحترمُ أَصالته ولا يساومُ عليها، باحترامه جمهورًا جاء يُصغي في صالة مسرح لا في قاعة طعام. لكن الفنانين في معظمهم لا يحترمون جمهورهم. فحين أَرى على المسرح مُغَنِّيةً تضع أَمامها مَسندًا عليه كلماتُ الأَغاني التي ستؤَديها لجمهورها الحبيب، تكونُ لا تحترم جمهورَها. وإِن كانت لم تهيِّئْ وصْلَتَها بحفْظ كلمات الأَغاني، تكون لا تحترم جمهورها. إِذا كانت تغنِّي أَغاني سواها، حريٌّ بها أَن تحفَظَها، وإِلَّا تكون لا تحترم جمهورها. وإِذا كانت تغنِّي أَغانيها، عيبٌ عليها أَلَّا تحفَظ كلماتِ أَغانيها وإِلَّا فهي لا تستاهل جمهورَها الذي غالبًا ما يردِّد أَغانيها معَها لأَنه يحفظُها أَكثر منها. وكيف يحترمُها جمهورٌ لا تحترمه، إِن كانت تعبِّر عن لواعجها في الأُغنية فيما اهتمامُها ليس بالشعور الصادق في الأَداء بل بتركيز عينَيها على الورقة الباردة أَمامها، تقرأُ فيها ببرودةٍ كلمات الأُغنية. وما أَقوله عن المغنِّيات، أَقوله عن المغنِّين الذي يَنُطُّون على المسرح ويعودون بسرعةٍ إِلى الـمَسْنَد كي يتابعوا قراءَة نص الأُغنية ويعبِّروا بزَيف ودجَل عن لواعجهم ومشاعرهم.
في المسرح الغنائي لا مَسْندَ إِلَّا لقائد الأُوركسترا الذي، وإِن يعرف الميلوديا، يقرأُ النوطات أَمامه كي يقود الفرقة الموسيقية.
احترامُ الفنانين جمهورَهم؟ فَلْيَتَمثَّلوا بسيِّدة سيِّدات الغناء فيروز: تقِفُ على المسرح وتغنِّي ساعتين غيبًا، لأَنها تحفَظ كلمات أَغانيها، وتؤَدِّيها بكلِّ ما فيها من مشاعر، فتحترمُ جمهورها بالاستعداد الـمُسْبَق، وتهيئةِ سهرتها له على أَعلى مستوى من الاحتراف والاحترام.
هكذا فلْيستعدَّ المغنُّون والمغنِّيات باحترام الجمهور، وإِلَّا فهُم عابرون على ظهر موجة عالية، لا بقاءَ لهم أَطولَ من تَرَبُّع الزبد الأَحمق على موجةٍ عاليةٍ سرعان ما تهبِط بهم فيبتلُعُهم رملُ الشاطئ تحت أَقدام السابحين.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib