كَيفَ تَقِفُ واشنطن وراءَ مُواجَهاتِ حلب؟
محمّد قوّاص*
تُحدِّثُ الأوساطُ الأميركية عن “قصّةٍ جميلة” يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى تحقيقها في سوريا. استجابَ لضغوطِ أصدقائه في المنطقة لرَفعِ العقوبات عن هذا البلد، وإعطاء الرئيس أحمد الشرع الفُرَص الضرورية لانتشال سوريا من غياهب العزلة إلى أنوارِ الوَصلِ مع المجتمع الدولي والعودة إلى نظامه المالي. ومع ذلك تستنتجُ الولايات المتحدة أنَّ إكراهاتٍ مصدرها حلفاء واشنطن تُشوِّهُ تلك القصة وتُهدّدُ جمالها.
وفق مصادر سورية، اضطرَّ المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم برّاك، وقائد القيادة المركزية الأميركية، الأدميرال براد كوبر، إلى قيادةِ جهودٍ مع الرئيس الشرع وقائد “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) مظلوم عبدي، يوم الإثنين الفائت، للوصول إلى “تهدئة” أوقفت إطلاق النار الذي أندلع حول أحياء الأشرفية والشيخ مقصود في حلب. بدا أنَّ الحدثَ جلل، يستدرجُ تدخُّل واشنطن لدى حليفيها، لوَضعِ حدٍّ لتدهورٍ قد يطيح بجهود ترامب وإدارته والكونغرس الأميركي لوضع سوريا على سكّة الخلاص.
والمفارقة أنَّ ظروفَ اندلاع المواجهات بين “قسد” والقوات الأمنية السورية تنهلُ أسبابها من إرسال تركيا (الحليف التاريخي للولايات المتحدة، والذي يتمتع رئيسها رجب طيب أردوغان مع الرئيس ترامب بعلاقات اعجاب مُتبادَل وتفهُّمٍ وتفاهم) وفدًا موسَّعًا رفيع المستوى إلى دمشق، ضمَّ وزيرَي الخارجية والدفاع ومدير المخابرات. بدا من الزيارة وخلفياتها وما صدر عن أطرافها، ما ولّدَ ظروفًا مضادة فجّرت الوضع في حلب وبعثت بالنار، وربما إلى واشنطن بالذات، رسائلها.
يمثّل الحدث انتكاسة ترقى إلى مستوى الفشل لجهود الولايات المتحدة في إنتاج “صفقة” تنهي النزاع بين “قسد” ودمشق. رعت واشنطن اتفاق الطرفين في آذار (مارس ) الماضي المُفتَرَض أن يدخل حيِّز التنفيد في آخر الشهر الجاري. وتفضح اشتباكات حلب، وسرديات الطرفَين المتناقضة، ركاكة انتقال الاتفاق من مرحلة الحبر والورق إلى التطبيق الفعلي.
وبدا منذ يوم التوقيع على الاتفاق حتى الآن، أنَّ “فتاوى” برّاك المؤيدة لسوريا ووحدتها واندماج كافة المكوّنات بهياكل حكمها الجديد لم تصل إلى مستوى اهتداء “الحلفاء الأكراد” إلى وجهة البوصلة التي تريدها واشنطن في سوريا.
والمفارقة أنَّ استقواءَ دمشق و “قسد” بالحليف الأميركي قد يكون وراء انسدادٍ يمنعُ تسييلَ اتفاقٍ بدا منذ لحظة الإعلان عنه أنَّ تنفيذه سيكون عسيرا وحتى مستحيلًا. أيدت واشنطن من خلال برّاك مركزية الحكم التي يتمسّك بها الرئيس الشرع لإدارة سوريا. ولم يصدر ما يمكن أن يُفهَمَ من واشنطن تأييدًا لفكرة الكيانية الكردية التي يُبشّرُ بها عبدي على شكل لامركزية أو فيدرالية، كما لم يصدر عن العواصم الأوروبية، رُغمَ علاقة فرنسا بأكراد سوريا، ما يُعبّرُ عن تباين مع مسار دمشق-واشنطن في مقاربة ملف سوريا ومسألة مستقبل “قسد” داخل، وليس إلى جانب، الحكم الجديد في سوريا.
قد تكون زيارة الوفد التركي، بالشكل السياسي والعسكري والأمني، إلى دمشق مجرّد رسالة تبعث بها أنقرة إلى اجتماعٍ ترامب مع رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في فلوريدا في 29 الشهر الجاري. وقد تكون مواجهات حلب التي بادرت إليها “قسد”، وفق تقارير محايدة استندت إلى شهود عيان، تهدف أيضًا إلى بعث رسائل “قسد” إلى المناسبة نفسها والمجتمعين أتفسهم.
ولئن سارعت واشنطن إلى التدخل عبر الثنائي باراك-كوبر الأكثر تماسًا مع عبدي وقواته، فذلك أنها فهمت فحوى الرسائل وآثرت تعطيل الميادين والتموضع سياسيًا وفق رسائلها.
الأرجح أن إسرائيل تلعب دورًا في تعطيل “القصة الجميلة” التي تتخيّلها واشنطن لسوريا. وأنَّ رسائل مواجهات حلب تتوسّل موقفًا أميركيًا يُعيدُ ضبطَ خططٍ لا تأخذ مصالح كافة الأطراف بعين الاعتبار داخل الصفقة المُتوَخّاة بين الشرع وعبدي.
وأمام ترامب خيارٌ صعب لمُراضاة الحلفاء في صفقةٍ لا يمكن أن ترضي الجميع. فما بين دمشق وتل أبيب وأنقرة وميلُ ترامب للتخلّص من أعباء يتكبّدها جيشه في سوريا، معادلة معقّدة تواصل “قسد” البحث داخلها عن موقع تبوَّأته خلال السنوات الماضية، وحوّلت خلالها الرعاية الأميركية حلم الانفصال الكردي، حتى المقنّع، إلى واقعٍ بدا قريب المنال.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).



