منبرُ وساطة أم ساحةُ حرب؟ الدوحة بين السلامِ والنار
السفير يوسف صَدَقه*
في التاسع من أيلول (سبتمبر) 2025، استيقظت العاصمة القطرية الدوحة على وَقعِ حدثٍ غير مسبوق في تاريخ المنطقة: ضربةٌ جوّية إسرائيلية استهدفت اجتماعًا لقيادات من حركة “حماس” داخل الأراضي القطرية. أسفرَ الهجوم عن مقتل ستة أشخاص بينهم مسؤول أمني قطري وعدد من الجرحى، فيما نجا قياديون بارزون مثل خليل الحية. وبحسب تقارير لاحقة، فقد أنذرت المخابرات التركية الوفد الفلسطيني قبل الهجوم بوقتٍ قصير، مما يشير إلى مستوى معقّد من التداخل الاستخباراتي والإقليمي في هذه العملية.
الهجومُ، الذي وقعَ بينما كانت “حماس” تبحث في مقترحٍ لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى برعايةٍ أميركية، اعتبرته الدوحة خرقًا فاضحًا لسيادتها ووصفتْه بأنه “عملٌ جبان” يرقى إلى مستوى الإرهاب الدولي. لكنَّ إسرائيل برّرت العملية بأنها ضرورةٌ أمنية، مُتَّهمةً قطر بتوفيرِ “ملاذٍ آمن” لقيادات “حماس”، وهو ما جعلَ وساطة الدوحة مَوضِعَ شكٍّ في نظر تل أبيب. وهكذا وُضِعَت قطر، التي لطالما لعبت دور الوسيط بين أطراف الصراع، في قلبِ مواجهةٍ مباشرة بين تعهّداتها الديبلوماسية والتزاماتها الأمنية.
ردودُ الفعل لم تتأخّر. فقد سارعت قطر إلى الدعوة لقمّةٍ عربية–إسلامية طارئة في 15 أيلول (سبتمبر)، خرجت ببيانٍ شديد اللهجة يُدينُ الهجوم ويؤكّدُ التضامن المُطلَق مع الدوحة. البيانُ شدّدَ على أنَّ الضربة تُعرقلُ جهودَ السلام وتنتهك القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، داعيًا إلى دَعمِ الدول التي تضطلع بأدوارِ الوساطة، وفي مقدمتها قطر. السعودية والإمارات والكويت أدانت الهجوم علنًا، فيما وصفت وزارة الخارجية السعودية العملية بأنها تهديدٌ للأمن الإقليمي برمّته. أمّا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، فاعتبر الضربة “انتهاكًا صارخًا للسيادة القطرية” ودعا جميع الأطراف إلى الالتزام بالقانون الدولي
الأهمية البالغة للهجوم لا تكمن في نتائجه المباشرة فقط، بل في ما كشفه من هشاشة التحالفات التقليدية. إذ أثار تساؤلات صعبة في الخليج: كيف يمكن لدولة حليفة للولايات المتحدة أن تتعرّضَ لضربةٍ عسكرية من قبل حليفتها الأقرب، إسرائيل، من دونِ ردعٍ أو حتى تحذيرٍ مُسبَق من واشنطن؟ هذا التناقُضُ أضعفَ ثقةَ الدوحة ودول مجلس التعاون الخليجي بالضمانات الأمنية الأميركية. تقارير غربية أشارت إلى أن هذه الحادثة “زعزعت إيمان الخليج بالحماية الأميركية”، إذ رأت العواصم الخليجية أنَّ واشنطن لم تعد قادرة، أو ربما لم تعد راغبة، في كبح السلوك الإسرائيلي المنفلّت .
المأزق الأميركي أعمق من كونه مجرّدَ تقصيرٍ في ردع إسرائيل. فهو يأتي في وقتٍ يتراجع فيه الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط لصالح أولويات أخرى في أوروبا وآسيا. إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بدت مُتردّدة في تقديم التزاماتٍ أمنية واضحة حتى لحلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فما بالك بحلفاء الخليج؟ وقد انعكس هذا الارتباك على سياساتِ واشنطن في المنطقة، حيث منحت دعمًا غير مشروط لإسرائيل، بما في ذلك استخدام حق النقض (الفيتو) مرتين في مجلس الأمن لإجهاض قرارات دعت إلى وقف إطلاق النار في غزة وإدخال المساعدات الإنسانية. هذه التناقضات جعلت مستقبل العلاقة الأمنية بين الخليج والولايات المتحدة موضع تساؤل حقيقي.
في ظلِّ هذه المخاوف، بدأ بعضُ دول الخليج البحثَ عن بدائل أو مكمّلات للمظلة الأميركية. المثال الأبرز كان توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين السعودية وباكستان، تتضمّن بندًا يعتبرُ أيَّ اعتداءٍ على إحداهما اعتداءً على الأخرى، مع إشارةٍ واضحة إلى “المظلة النووية” الباكستانية كعاملِ ردعٍ استراتيجي. باكستان، التي خاضت مواجهةً جوية مع الهند في السنوات الأخيرة مُستخدمةً منظومات صينية متطوّرة للحرب الإلكترونية، أظهرت قدرتها على تحدي قوى إقليمية كبيرة، وهو ما أغرى الرياض بتوثيق التعاون معها. ورُغمَ أنَّ هذه الاتفاقية تعطي إشارة سياسية قوية، إلّا أن خبراء الأمن يشيرون إلى أن تفعيلها عملااً يواجه تحديات لوجستية وتنظيمية، وأنها لا يمكن أن تحل محل الضمانات الأميركية في المدى القريب .
أما فكرة “الناتو العربي–الإسلامي” التي راودت خيال الشعوب والسياسيين منذ سنوات، فقد بدت بعيدة المنال أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. فالهجوم الإسرائيلي على الدوحة أبرز صعوبة إنشاء تحالف أمني–عسكري إقليمي فعّال، في ظلِّ تبايُناتٍ سياسية عميقة وتحديات تنظيمية وبشرية. من هنا، يبقى المشروع أقرب إلى حلم جميل منه إلى واقع قابل للتطبيق في الظروف الراهنة.
على الصعيد العملي، أحدث الهجوم إرباكًا مباشرًا لجهود الوساطة. فالمفاوضات بين “حماس” والجانب الإسرائيلي، التي كانت تجري بدعمٍ أميركي في الدوحة، توقفت بشكلٍ شبه كامل بعد الضربة. كثيرٌ من الوسطاء أبدوا خشيتهم من أن تصبحَ العاصمة القطرية هدفًا متكرّرًا، مما يضعف الثقة في حيادها وأمنها كمسرحٍ للتفاوض. وهنا تبرز المُعضِلة القطرية: كيف تستمرُّ في لعبِ دور الوسيط المقبول دوليًا بينما تُستَهدَفُ أراضيها بشكلٍ مباشر؟ إن تمسّكَ الدوحة بدورها قد يُعززُ مكانتها كقوة ديبلوماسية، لكنه قد يُعرّضها لمزيدٍ من المخاطر الأمنية والسياسية.
في المحصلة، الضربة الإسرائيلية على قطر لم تكن مجرّدَ عمليةٍ عسكرية ضد فصيل فلسطيني، بل كانت لحظة فاصلة في العلاقات الإقليمية والدولية. فقد كشفت حدود النفوذ الأميركي في الخليج، وأعادت رَسمَ أولويات الأمن الإقليمي، وألقت بظلالٍ كثيفة على مستقبل الوساطة القطرية. ومع أنَّ الدوحة تؤكد أنها لن تتراجع عن دورها، فإنَّ استمرارها فيه سيتطلب توازنًا دقيقًا بين الحفاظ على استقلال قرارها الوطني، وتجنّب أن تصبح ساحةً مكشوفةً في صراعٍ أكبر منها. إنها لحظة اختبار للسياسة القطرية وللنظام الإقليمي برمته: فإما أن يُترجم التضامن العربي والإسلامي إلى آلياتِ ردعٍ حقيقية، أو أن يظلَّ في حدود البيانات والشعارات، تاركًا قطر وغيرها عُرضةً لتكرار سيناريوهات مشابهة في المستقبل.
- السفير يوسف صَدَقَه هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.