المَشِي على حبلٍ مشدود: كَيفَ تَتَأرجَحُ أوروبا بَينَ واشنطن وبكين

كابي طبراني*

مع استمرارِ التنافُسِ المرير بين الولايات المتحدة والصين على زعامةِ النظام الدولي، تَجِدُ أوروبا نفسها في وَضعٍ غير مُريح، إن لم يكن غير قابل للاستمرار. فهي ليست مجرّدَ مُتفرِّجٍ، ولا مُتلقّيًا سلبيًا لنتائج هذا الصراع، بل طرفٌ ثالثٌ محوري، يتأثّرُ بالاختيارات الأميركية والصينية ويُؤثّرُ فيها في الوقت نفسه. ومع ذلك، فإنَّ موقفَ الاتحاد الأوروبي يَتَّسِمُ بالارتباكِ والتردُّد، وبمُعضِلةٍ دائمة تتمثّلُ في غيابِ الوحدة بين دوله السبع والعشرين. وقد يعتمدُ مُستقبلُ النظام العالمي على كَيفِيَّةِ ضَبطِ أوروبا لمسارها بين القوَّتين العُظميَين بقدرِ ما يعتمدُ على ما تفعله واشنطن أو بكين.

الحقيقةُ الأولى أنَّ أوروبا لا تستطيعُ أن تكتفي بأن تكونَ ذَيلًا للاستراتيجية الأميركية. لعقودٍ طويلة، ضمنت الولايات المتحدة أمنَ القارة العجوز عبر حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو اعتمادٌ ازدادَ وضوحًا مع الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا. غيرَ أنَّ علاقةَ أوروبا بالصين لا تُقاسُ بالدبابات والصواريخ، بل بتدفُّقات التجارة وسلاسل الإمداد والاعتماد التكنولوجي. وبينما تنظُرُ الولايات المتحدة إلى الصين باعتبارها خصمها الاستراتيجي الأوّل وتهديدها الأمني الأكبر، ترى أوروبا في الصين خليطًا مُربِكًا: شريكًا ومنافسًا وخصمًا نظاميًا في الوقت نفسه. هذا الاختلافُ في التصوُّرات يُوَلِّدُ حتمًا احتكاكًا في التعاون عبر الأطلسي.

توقّعات واشنطن من أوروبا لا تزال مرتفعة، وأحيانًا غير واقعية. فالمسؤولون الأميركيون يأملون في تنسيقِ القيودِ على نَقلِ التكنولوجيا إلى الصين، والتضامُن في العقوبات، والاستعداد للانخراط ديبلوماسيًا في قضايا حسّاسة مثل قضية تايوان. لكن قدرة أوروبا محدودة. عسكريًا، لا يستطيعُ الاتحاد الأوروبي دَعمَ الولايات المتحدة في أيِّ نزاعٍ آسيوي؛ وأقصى ما يُمكِنهُ فعلهُ هو ضمان استقرار قارته بينما تنقلُ واشنطن تركيزها واهتمامها شرقًا. إقتصاديًا، بدأت أوروبا بالفعل في “تقليل المخاطر” مع الصين، لكنها ما زالت تعتمدُ بشدّة على الواردات الصينية —من المعادن النادرة إلى الألواح الشمسية— ما يجعلُ الانفصالَ التام مستحيلًا وغير مرغوب فيه. الحقيقة القاسية أنَّ سياسةَ أوروبا تُجاه الصين لن تكونَ نسخة طبق الأصل عن سياسة واشنطن.

أما بكين، فترى في أوروبا حلقةً ضعيفة وجائزةً ثمينة في آنٍ واحد. يعتقدُ القادة الصينيون أنَّ العلاقةَ عبر الأطلسي مُتوتّرة جدًا، وأنَّ الاعتمادَ الأوروبي على أميركا غير مضمون، ما يُتيحُ لهم مساحةً للمناورة. وباستغلال الانقسامات داخل أوروبا وبينها وبين الولايات المتحدة، تأملُ الصين في ضمانِ استمرارِ وصولها إلى السوق الأوروبية الهائلة، مع تخفيفِ حدّة النقد الأوروبي لأجندتها السياسية والأمنية. تكتيكاتُها مُتَوَقَّعة لكنها فعّالة: إغراءُ بعض الدول الأوروبية بحوافز اقتصادية، التهديدُ بالانتقامِ ضد السياسات الأوروبية المُوَحَّدة، وتعميقُ شراكتها مع روسيا لزيادة كلفة أيِّ مواجهة أوروبية.

لكنَّ المُفارَقةَ أنَّ هذه الاستراتيجية ارتَدَّت على بكين في السنوات الأخيرة. فشراكتُها “غير المحدودة” مع فلاديمير بوتين أقلقت أوروبا، ورَسّخَت فكرةَ أنَّ الصين شريكٌ مُباشرٌ في آلة الحرب الروسية. كما إنَّ استخدامَ سلاح الاقتصاد —من تقييد صادرات المعادن الأساسية، إلى إغراق الأسواق الأوروبية بالمنتجات المدعومة، إلى تسليح الاعتماد المتبادل— زادَ من تصلُّب المواقف الأوروبية. وبدلًا من أن تُبعِدَ أوروبا عن واشنطن، دفعتها نحوها. فقد فتحَ الاتحاد الأوروبي تحقيقاتٍ في شركات صينية للسيارات الكهربائية والتجارة الإلكترونية، وفرضَ عقوباتٍ على بنوكٍ صينية تدعمُ روسيا، واستبعَدَ شركاتٍ صينية من عقودٍ عامة أساسية. ويصفُ قادةٌ أوروبيون العلاقة مع بكين بأنها عند “نقطة تحوُّل”.

ومع ذلك، يبقى الرَدُّ الأوروبي غير مُتَّسِق. بعضُ الدول، خصوصًا في أوروبا الوسطى والشرقية، يتبنّى موقفًا مُتَشدِّدًا، ويرى الصين من منظورِ الأمن والسيادة. بينما دولٌ أخرى كألمانيا تتمزَّقُ بين الحذرِ الاستراتيجي والمصالح الاقتصادية. أما “الاستقلالية الاستراتيجية” التي يتغنى بها الاتحاد الأوروبي فما تزالُ أقربَ إلى الطموح منها إلى الواقع، وهو ما تستغلّه بكين وتخشاه واشنطن على حدٍّ سواء.

فأينَ تقف بروكسل إذن؟ السيناريو المثالي للاتحاد الأوروبي هو تحقيقُ توازُنٍ ثُلاثي: الحفاظُ على تحالفه الوجودي مع واشنطن، مع إدارةِ علاقةٍ مُستقرّة، وإن كانت تنافُسيّة، مع بكين. لكن هذا التوازُن مليءٌ بالتناقضات. لا تستطيعُ أوروبا الانفصالَ عن الولايات المتحدة من دونِ تعريضِ أمنها للخطر؛ ولا يُمكنها قطعَ علاقتها بالصين من دونِ إلحاقِ الضررِ باقتصادها. التحدّي إذن هو رسمُ مسارٍ وَسَط — تقليلُ المخاطر لا الانفصال، التنسيقُ مع واشنطن حين تتقاطع المصالح، مع الحفاظ على حرّية التحرُّك حين تتباين.

إلّا أنَّ قَولَ ذلك أسهلُ من فعله. فمثلًا، قد تُحظِّرُ أوروبا تطبيقَ “تيك توك” لأسبابٍ تتعلّقُ بالخصوصية من دونِ أيِّ تنسيقٍ مع واشنطن، ما يعكس استقلاليتها. لكن في ما يخصُّ ضوابط أشباه الموصلات أو العقوبات على روسيا، ترتبطُ السياسات الأوروبية والأميركية بشكلٍ وثيق. كذلك تعتمد أوروبا في انتقالها الأخضر على التكنولوجيا الشمسية الصينية، حتى وهي تُحقّقُ في ممارسات بكين التجارية غير العادلة. هذه التناقضات لن تختفي؛ بل يجب إدارتها بواقعية.

الدرسُ لواشنطن واضح: مطالبةُ أوروبا بالاصطفاف الكامل ضد الصين وصفةٌ لخَيبةِ أمل. الأفضلُ أن تُرحّب الولايات المتحدة بأوروبا أكثر صلابةً وقدرةً على الصمود، تُقلّلُ من هشاشتها الاقتصادية أمام بكين، وتتحدّث حتى بصوتٍ مُوَحّد – إن لم يكن مطابقًا تمامًا لصوت واشنطن. فأوروبا واثقة ومُوَحّدة أكثر قيمةً لأميركا من أوروبا مُتردّدة ومُنقَسمة.

أما بروكسل، فعليها أن تُقاومَ كونها مجرّدَ طرفِ ردِّ فعل — تُسحَبُ تارةً إلى واشنطن وتارة إلى بكين. عليها أن تطرحَ رؤيةً استباقية للنظام العالمي: قائم على القواعد، مفتوح، وعادل. وهذا يعني قيادة إصلاح قواعد التجارة العالمية، ومواجهة الممارسات الاقتصادية القسرية، والدفاع عن التعددية الديبلوماسية. كما يعني الاستثمار في قدراتها الدفاعية والتكنولوجية حتى تُبنى خياراتها على استراتيجيةٍ لا على تَبَعية.

في نهايةِ المطاف، لن يُحدّدَ دورُ أوروبا في المنافسة الأميركية–الصينية من قِبل واشنطن أو بكين، بل من أوروبا نفسها. هل ستواصل التعثّرُ بين الوحدة والانقسام؟ أم ستنتهزُ الفرصة لتُصبِحَ فاعلًا مُشَكِّلًا لا مُتفرِّجًا في المنافسة العالمية؟ يشيرُ التاريخُ إلى أنَّ أوروبا تتحرّكُ ببطء، لكنها حين تُدفَعُ إلى حافة الهاوية، قد تُفاجئ بجرأةٍ غير مُتَوَقَّعة. وقد يتوقّفُ مصيرُ التحالف عبر الأطلسي، ومستقبل العولمة، واستقرار النظام الدولي على ما إذا كانت أوروبا ستنهضُ لمُواجهة هذا التحدّي.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى