غزّة المُحاصَرة تُحاصِرُ التطبيع: هل تَصمُدُ علاقة الإمارات بإسرائيل؟

على الرُغمِ من الإبادة الجماعية في غزّة وتصاعُدِ موجة الرفض الإقليمي، حافظت الإمارات العربية المتّحدة على علاقاتها مع إسرائيل وعمّقتها، واضعةً مصالحها الإستراتيجية والتكنولوجية والاقتصادية في المقام الأول.

حرب إسرائيل على غزة: هل تؤثر أخيرًا في اتفاقات أبراهام؟

جورجيو كافيرو*

حين طبّعت الإمارات العربية المتّحدة علاقاتها مع إسرائيل قبل خمس سنوات، كانت تُدرِكُ على الأرجح أنّها ستُثيرُ استياءَ العامة بالنظر إلى الرأي العام السلبي تجاه إسرائيل في المنطقة في ظلّ استمرار احتلالها العسكري لفلسطين. غير أنّ تصاعُدَ الصراع العنيف، أوّلًا في أيار (مايو) 2021، ثم على نطاقٍ أوسع بكثير بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بدّد أيَّ أوهامٍ بإمكانية تقدّمِ العلاقات بسلاسة ومن دون تكلفة باهظة. ومع ذلك، وعلى الرُغم من حصيلة الإبادة الجماعية المدمّرة في غزة، لم تُبدِ الإمارات أيّ مؤشر إلى نيتها قطع العلاقات مع الدولة العبرية، في إشارةٍ واضحة إلى أنّ أبوظبي ما زالت ترى في هذه العلاقة قيمة إستراتيجية تفوق كلفتها.

يَكمُنُ الدافعُ الرئيس وراء قرار الإمارات الأوّلي بالانضمام إلى اتفاقيات أبراهام في العام 2020، وإصرارها على التزامها بها على الرُغم من الحرب الجارية في غزة، في سعيها إلى تعزيز مكانتها لدى النخبة السياسية الأميركية. فقد ساهم التطبيع فعلًا في تحسين صورة الإمارات في واشنطن، ومنحها نفوذًا أوسع بين صانعي القرار الأميركيين. وفي الحالات التي تباينت فيها مواقف أبوظبي مع المواقف الأميركية، سواء في ما يخصّ الصراع في السودان أو الحرب الروسية-الأوكرانية أو مسار إعادة تأهيل النظام السوري السابق ديبلوماسيًا (إلى حين إطاحته في كانون الأول/ديسمبر الماضي)، شكّلت اتفاقيات أبراهام درعًا سياسيًا خفّفَ من حدّة الانتقادات وقلّلَ من احتمالات اتّخاذ واشنطن خطواتٍ عقابية ضدها. وإلى جانب هذا البُعدِ المُتَّصِل بالعلاقة مع الولايات المتّحدة، لدى الإمارات جُملةٌ من الأسباب تجعلها تستنتجُ أنّ التطبيعَ مع إسرائيل يخدم، في المحصلة، مصالحها الوطنية ويُعزّزها.

التجارة والتكنولوجيا والسياحة

تتصدّرُ دولة الإمارات موقع الشريك التجاري العربي الأوّل لإسرائيل. فلا تضاهيها أيُّ دولة أخرى في العالم العربي من حيث حجم التبادُل التجاري مع الدولة العبرية، وهو تَمَيُّزٌ حافظت عليه حتى في خلال الإبادة الجماعية في غزة. فعلى الرُغم من الضغوط السياسية التي سنفصّلها لاحقًا، ظلّت التجارة الثنائية بمعظمها بمنأى عن الاضطرابات، ما يعكسُ استعداد الطرفين لتجاهل الرأي العام لصالح المصالح الاقتصادية المشتركة والمواءمة الإستراتيجية طويلة الأمد. ففي العام 2024، بلغ حجم التجارة الثنائية بين الإمارات وإسرائيل نحو 3.2 مليارات دولار، مُسجّلًا ارتفاعًا بنسبة 11 في المئة بالمقارنة مع العام السابق.

ويُبرزُ هذا النمو مدى عُمقِ التكامل التجاري بين البلدين، في إشارةٍ إلى أولويّة إرساءِ علاقاتٍ اقتصادية مستقرّة ومؤسّسية. وتُعدّ إسرائيل ثاني دولة من أصل 27 دولة وقّعت معها الإمارات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة، وهي اتفاقية تهدف إلى رفعِ حجم التجارة الثنائية غير النفطية إلى 10 مليارات دولار بحلول العام 2030.

وبصفتهما مركزَين تكنولوجيين من الأكثر دينامية في الشرق الأوسط، عمّقت الإمارات وإسرائيل شراكتهما بشكلٍ ملحوظ عبر التعاون الثنائي في مجالاتٍ متقدّمة مثل الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المالية والأمن السيبراني. وقد وجد الطرفان مساحاتٍ واسعة للتكامل عبر عمليات نقل التكنولوجيا والتمويل المشترك لمشاريع ابتكارية وتأسيس مشاريع وشركات استثمارية تُركّزُ على توسيع نطاق التقنيات الناشئة.

وبالنسبة إلى أبوظبي، تمثّل الخبرة الإسرائيلية في التكنولوجيا فرصةً حاسمة لتسريع مسعاها إلى التحوّل إلى مركزٍ عالمي للابتكار والتحوّل الرقمي. أمّا تل أبيب، فتنظر إلى الإمارات ليس كسوقٍ استهلاكية عالية القيمة لتقنياتها فحسب، بل أيضًا بوابة إستراتيجية إلى أسواق إقليمية ودولية أوسع.

وإذا كانت اتفاقيات أبراهام في العام 2020 قد ساهمت في إضفاء الطابع المؤسّسي على هذه الشراكة وعزّزتها، فإنَّ أُسُسَ التعاون التكنولوجي بين الطرفَين وُضِعت سرًا قبل ذلك بسنوات. ففي آب (أغسطس) 2013، أبرمت الحكومة الإماراتية اتفاقًا مع شركة الاستخبارات السيبرانية الإسرائيلية “أن أس أو غروب” (NSO Group)، منحها إمكانية الوصول إلى أدوات مراقبة مُتطوّرة، من بينها برنامج التجسّس الشهير “بيغاسوس” (Pegasus). وقد شكّل الحصول على مثل هذه التقنيات الإسرائيلية المُتقدّمة في المراقبة والدفاع حافزًا أساسيًا وراء القرار الإماراتي اللاحق بتطبيع العلاقات الديبلوماسية. وتكشفُ هذه الطبقة في مسارِ التطبيع عن مدى تغلغل الحسابات الإستراتيجية والتكنولوجية والأمنية، وليس مجرّد الرمزية الجيوسياسية، في مقاربة أبوظبي.

كما برزت أيضًا السياحة كركيزةٍ مهمّة، وإن كانت غير مُتوازنة، في العلاقة المتطوّرة بين الإمارات، وخصوصًا دبي، وإسرائيل. ففي حين لم يزر سوى عددٍ قليل جدًا من السيّاح الإماراتيين الدولة العبرية، تحوّلت دبي بسرعة إلى وجهةٍ رئيسة للسيّاح الإسرائيليين، خصوصًا منذ إطلاق الرحلات المباشرة بين تل أبيب ودبي في حزيران (يونيو) 2022. وفي مطلع العام 2025، أفاد موقع ماكو الإعلامي الإسرائيلي بأنّ دبي باتت الوجهة الشتوية الأولى للإسرائيليين، إذ استحوذت على أكثر من 10 في المئة من مجمل الرحلات المغادرة من مطار بن غوريون.

وتوسّعت مجالات التجارة والتعاون الثنائي بين الإمارات وإسرائيل منذ توقيع الاتفاقية لتشمل قطاعاتٍ مُتعدّدة أخرى، منها الزراعة والدفاع والتعليم والطاقة والصحة وأمن المياه. ويعكسُ هذا التعاون متعدّد الأبعاد طموحات البلدين المشتركة في ترسيخ مكانتهما كاقتصادات مبتكرة ومراكز إقليمية للاستثمار الإستراتيجي.

المخاطر على السمعة والكلفة الأخلاقية

لم تكن العلاقة الإماراتية-الإسرائيلية بمنأى عن التداعيات الأوسع لأزمة غزة. فقد بدأ دعم اتفاقيات أبراهام الشعبي يتراجع، سواء داخل الإمارات أو عبر الخليج، حتى قبل أن تطلق إسرائيل حملتها الإبادية على غزة في تشرين الأول (أكتوبر) 2023. كما أعادت شخصيات إماراتية بارزة، سبق أن دافعت عن التطبيع مع إسرائيل، تقييم مواقفها بلهجة نقدية. ففي مطلع العام 2024، كتب ضاحي خلفان تميم، نائب رئيس شرطة دبي وأحد أبرز الشخصيات العامة في الإمارات، للملايين من متابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي قائلًا: “العرب كانوا يريدون السلام فعلًا، لكن قادة إسرائيل لا يستحقّون الاحترام”. ونتيجة شعوره بتزايد التوتر، أوفد بنيامين نتنياهو أخيرًا وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر إلى أبوظبي في محاولةٍ لتهدئة الأجواء.

وعلى الرُغم من بقاء التجارة الثنائية قوية، فإنّها تستندُ في معظمها إلى التعاملات بين مؤسّسات القطاع العام لدى البلدين. أمّا كبار رجال الأعمال الإماراتيون، الواعون بحساسية اعتبارات السمعة، فأصبحوا أكثر حذرًا من الدخول في شراكاتٍ مع شركات أو شخصيات إسرائيلية. وبالنتيجة، يعيدون اليوم تقييم جدوى هذه الارتباطات، ما يعكس كيف أنَّ مشهدَ ما بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) قد أفرز تعقيدات جديدة على العلاقات التجارية الإماراتية-الإسرائيلية.

علاوة على ذلك، عادت القضية الفلسطينية إلى الصدارة كقضية أخلاقية وسياسية مركزية على امتداد المنطقة العربية وخارجها. وفي هذا السياق، تواجه الإمارات انتقاداتٍ متزايدة بسبب تمسّكها بالتزاماتها في اتفاقيات أبراهام. ومع بثِّ صورِ الفظائع التي ترتكبها القوات الإسرائيلية من القطاع المحاصر على مدار الساعة، يرى كثيرون في المنطقة أنّ استمرارَ أبوظبي في علاقاتها الديبلوماسية الكاملة مع إسرائيل أمرٌ غير مقبول أخلاقيًا. وبالنسبة إلى هذه الجماهير، يطرح موقف الإمارات سؤالًا ملحًّا: هل يوجد حدٌّ لا يُحتمَل من السلوك الإسرائيلي، مهما بلغ من تطرّف ووحشية، قد يُجبر القادة الإماراتيين على إعادة النظر في علاقاتهم الرسمية مع دولةٍ تمارس الإبادة الجماعية بحقِّ أشقائهم العرب؟

وقد أجبرت التطوّرات الأخيرة أيضًا صنّاع القرار العرب على إعادة النظر في الافتراضات السابقة بشأن دور إسرائيل كفاعلٍ مسؤول وقوّة إستراتيجية مُوازِنة في مواجهة نفوذ إيران. فالسلوك الإسرائيلي المُتفلّت، ليس في فلسطين فحسب، بل أيضًا في لبنان وسوريا واليمن، أثار قلق العواصم العربية بشأن تداعياته على أمن الدول العربية الجماعي. وتتفاقَمُ هذه المخاوف مع إعلان من القادة الإسرائيليين دعمهم العلني لرؤية “إسرائيل الكبرى”، بما تنطوي عليه من مطالباتٍ توسُّعية تشمل بلدانًا عربية عدّة، من بينها دولتان شقيقتان للإمارات في مجلس التعاون الخليجي.

أمام هذا الواقع، أصبح المسؤولون الإماراتيون أكثر وَعيًا بالمخاطر المُلازِمة لعلاقة التطبيع مع إسرائيل. ففي مواجهة وضع غزة، تبنّت أبوظبي خطابًا أشدّ لهجة في إدانة السلوك الإسرائيلي المارق، وأكّدت مرارًا أنّ قيامَ دولة فلسطينية شرطٌ لا غنى عنه لتحقيق سلامٍ دائم، واتجهت إلى إدارة العلاقة مع إسرائيل بصورةٍ أكثر تحفّظًا. كما سعت الإمارات إلى الترويج لسردية مفادها أنّ اتفاقيات أبراهام منحتها أوراقَ ضغطٍ على إسرائيل يمكن استخدامها لكبح جماح السلوك الإسرائيلي. غير أنّ الحربَ على غزة والتوجّه الإسرائيلي المتصاعد نحو الضمّ في الضفة الغربية، يُظهِرُ غيابَ أيّ تأثيرٍ ملموس لأبوظبي أو قدرة على ضبط أفعال إسرائيل.

وفي خضمِّ الحرب المستمرّة، حاولت الإمارات إبرازَ بُعدٍ إنساني في سياستها عبر الاستثمار في عملياتِ إغاثة للتخفيف من معاناة المدنيين في غزة. فقد سوّقت هذه الجهود كدليل على تضامنها مع الشعب الفلسطيني، ونسّقت مع إسرائيل لإيصال المساعدات عبر قوافل برية من مصر، وشاركت إلى جانب فرنسا وألمانيا وإيطاليا والأردن وإسبانيا في عملياتِ إسقاطٍ جوي للمساعدات ضمن “عملية طيور الخير” و”الفارس الشهم 3″. ولا تُعدّ هذه المبادرات إنسانية فحسب، بل أيضًا رسائل إستراتيجية تهدفُ إلى مواجهة التصوّرات بأنّ التطبيعَ الإماراتي مع إسرائيل جاء على حساب المصالح الفلسطينية.

بالمجمل، لا تزال الإمارات ترى أنّ علاقاتها المطبّعة مع إسرائيل منسجمة مع مصالحها الوطنية، ما يجعل احتمال انسحابها من اتفاقيات أبراهام مُستَبعَدًا. بل إنّ إقدامها على خطوة قطع علاقتها مع إسرائيل  بسبب غزة قد يُفهَمُ كاعترافٍ ضمني بأنّ التطبيعَ كان خطأً إستراتيجيًا. ونظرًا إلى تطلّع الإمارات لترسيخ نفسها كقوّة إقليمية استشرافية تُساهِمُ في صياغة مستقبل الشرق الأوسط، فقد تعتبرُ أيَّ تراجُعٍ عن التطبيع هو إضعافًا لتلك الصورة المُصَمّمة بعناية، وربما تصويرًا للدولة كفاعل تفاعلي لا استراتيجي.

مع تفاقُمِ الكارثة الإنسانية في غزة، من المرجّح أن تتزايدَ الضغوط على الإمارات لإلغاء أو تجميد اتفاقيات أبراهام. غيرَ أنّ مرورَ نحو عامين على الإبادة الجماعية من دون أن يدفعها إلى اتّخاذِ قرارٍ مُماثل، يجعلُ من الصعب الجزم ما إذا كانت تطوّراتٌ مستقبلية ستُجبِرُ أبوظبي على تغيير مسارها. ونظرًا إلى طبيعة النظام السياسي الإماراتي القائم على ثروة نفطية هائلة واقتصاد تكنولوجي متطوّر وسيطرة صارمة على المجال العام ومنع كامل للاحتجاجات، فإنّ غيابَ المعارضة الداخلية العلنية لاتفاقيات أبراهام لا يثير الاستغراب. فهو يعكس قدرة القيادة الفائقة على التحكُّمِ بالسردية الداخلية واحتواء التداعيات السياسية، ما يتيح لها تجاوز الرأي العام بطرق لا يستطيع نظراؤها مجاراتها.

في المحصلة، وبعد خمس سنوات على توقيع اتفاقيات أبراهام، تؤكّد العلاقات الإماراتية-الإسرائيلية قدرتها على صمودها على الرُغم من الأزمات الإقليمية المتفاقمة بفعل الحرب على غزة.

  • جورجيو كافيرو هو الرئيس التنفيذي ل”تحليلات دول الخليج” (Gulf State Analytics) وهي شركة استشارية لتحليل المخاطر الجيوسياسية، ومقرّها واشنطن. ويعمل كافيرو أستاذًا مساعدًا غير متفرّغ في جامعة جورجتاون، وزميل غير مقيم في “معهد أوريون للسياسات” (Orion Policy Institute)، وهو زميل مساعد في مركز بحوث “مشروع الأمن الأميركي” (American Security Project).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى