“شنغهاي” في الصين: قلقُ واشنطن المَزعوم
محمّد قوّاص*
تأمّلَ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، صُوَرَ القمّة الأخيرة التي استضافتها الصين لـ”منظمة شنغهاي”. تحدّثَ عن قوى “تتآمر على أميركا”. تأمّلَ العرضَ العسكري الضخم الذي سار أمام الزعيم الصيني، شي جين بينغ. لاحَظَ حضور “صديقَيه” على منصّة كبار الحاضرين: الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وزعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون. وبدا أنَّ هَدَفَ الحشد والحفل والعرض هو التقاطُ صورٍ تذكارية يشاهدها الرئيس في واشنطن.
عشرُ دولٍ عضو في المنظمة و 16 دولة مُراقِبة حضرَت المؤتمر. حضورُ الزعيم الهندي، ناريندا مودي، كان لافتًا. يُنهي الأمرُ جفاءً عتيقًا مع الزعيم الصيني، ويَعِدُ بتطبيعِ علاقاتٍ بين بلديهما باعدَت بينهما عواملُ المنافسة ومشاكل الحدود. لكنَّ حضورَ الزعيم الهندي يفصحُ أيضًا عن واجهةِ جفاءٍ آخر في العلاقة مع الرئيس ترامب إثر فرضه رسومًا جمركية على الهند بنسبة 50 في المئة.
ضحك َناريندا وبوتين وشي كثيرًا. بدا عليهم الحبور. تقصّدوا إظهارَ كلِّ أعراضِ “التناغُم” و”الغرام”. قال ترامب إنه يشعرُ بخيبةِ أملٍ من “صديقه” الروسي. أجاد استقباله في ألاسكا، وأظهر له الحفاوة والترحيب، من دون أن يحصلَ منه على ما يمكن أن يُنهي الحرب في أوكرانيا. وها هو يستقوي بزهوٍّ بشريكه الصيني الكبير، مُتمتِّعًا بمودّةِ نظيره الهندي.
بدا أنَّ في الحدثِ هجومٌ مُعاكس ضد أميركا يستدعي القراءة في واشنطن وإعادة التموضُع وفق مظاهره. “شنغهاي” و”بريكس” وغيرهما من تجمُّعاتٍ إقليمية دولية يعتبرها ترامب مصنوعةً لمُعاداة الولايات المتحدة. هي ما يُسمّى ب”دول الجنوب” تتآلف. تلتقي في المناسبات، من دون أن تُظهِرَ أيَّ علاماتٍ لتحالفٍ استراتيجي ذي مصداقية. تنافُرُ المصالح بين أعضاء تلك التجمّعات ما زال كبيرًا يكبحُ أيَّ طموحاتٍ بالذهاب بعيدًا.
صحيحٌ أنَّ الكلامَ عن آلياتٍ اقتصادية وتفعيلِ استخدامِ العملات المحلّية ينزَعُ إلى الخروج من سطوة الدولار الأميركي، غيرَ أنَّ الأمرَ ما زال بمستوى الأماني والتطلُّعات، وإن بدأت الأرقام تكشُفُ تراجُعَ مستوى العملة الأميركية في احتياطيات الخزائن الدولية. تبدو المناسبة صينية. وهي تصبّ، كما حضور الضيوف الكبار الواسع، الثمار داخل سياقٍ تريد بكين جعله نهائيًا.
يَرفعُ ترامب من صخب التوتّر الأميركي للدفاع عن الصدارة والتفوّق والقدرة على قيادة العالم، فيما الصين، وفق طباع شي جين بينغ، تكرّس زعامة صاعدة في العالم، وهيمنة ثقيلة في منطقة الأندو-باسيفيك. يجري الأمر وفق مسارٍ خافت، وإن تشعر بخطورته وثقل ظلاله دولٌ مثل فيتنام والفليبين واليابان وأوستراليا وكافة الدول المُحيطة بالصين والمُرَشَّحة لتكون تحت هيمنتها. تتحدّث روسيا عن التعدُّدية في العالم. الصين أيضًا صارت تعتبره حقًّا، وربما أمرًا واقعًا، وإنها ترفضُ أن تقبلَ به في مجالها الاستراتيجي في آسيا. لا تستسيغُ بكين التعدّد في حيزّها الجيوستراتيجي. حتى أنها لا تقبل أن تُفكّرَ دولة كبيرة مثل الهند في منافستها، تحت عنوان التعدُّد، في الزعامة على المنطقة.
بَيدَ أنَّ هذا المنطق العقائدي في استراتيجيات الصين ما زالَ حافزًا لتعزيزِ تَوق دول المنطقة إلى التدثّر بالحماية الأميركية. ولئن ينظر ترامب إلى قمّة “شنغهاي” والعرض العسكري الصيني بعين المشاهد النزق، غير أنَّ واشنطن تهمس في أذنه أنَّ تلك “العراضة” تُخيفُ الجوارَ وترفعُ من حاجته لحضور الولايات المتحدة في المنطقة.
قد تكون منطقتنا هي أكير دليل على اختلال موازين القوى التي تخرج من مشهد الجمع الدولي الحاضر في الصين وما ينتجه من مشاهد ودروس. لم تستطع “شنغهاي” و “بريكس”وغيرهما أن تؤثّرَ في واقع المشهد الدولي لجهة استمرار الولايات المتحدة في تقرير وجهة وخرائط وأقدار الشرق الأوسط. يكفي تأمُّل تدحرج الموقف الأميركي وتفاقمه في دعم إسرائيل ورعاية “حقها” في اختراق “سايكس-بيكو”، وفق ما يكشفه مبعوث ترامب، السفير توم برّاك. ويكفي تأمُّل رفد واشنطن لمنطق إسرائيل في نفي احتمال قيام دولة فلسطينية، لنستنتج عجز تجمّعات الجنوب عن تغييرِ البوصلة، أو ربما التواطؤ للحفاظ عليها في الاتجاه نفسه الذي تقوده واشنطن.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).