وطنٌ صغير؟ أَبدًا… دولةٌ صغيرة؟ نعم!
هنري زغيب*
أَحداثُ الأَسابيع الأَخيرة صرَفَت الانتباه، قبل 12 يومًا، عن تَذَكُّر إِعلان “دولة لبنان الكبير” في الأَوَّل من هذا الشهر. وإِن كانت المناسبةُ عَبَرَتْ، منذ إِطلاقها قبل 105 سنوات، ففيها ما لا يعبُر لأَنه مُضْمَرٌ ولا يُذكَرُ بالاسم.
إِنه الوطن “الكبير”. وهو الخالد قبل 1920، ومعه، وسيبقى طويلًا بعده لا إِلى انقضاء. لذا أَنفُر ممَّن (وبينَهم الردح الأَكبر من السياسيين عندنا، ومعظمُهم أُمِّــيُّــون في حضارة لبنان) يَلفُظون عبارة “لبنان هذا الوطن الصغير”، ويَمضون في جهْلهم تنظيرًا.
مش صحيح. أَبدًا مش صحيح. لبنانُ ليس “وطنًا صغيرًا” بل هو مساحةٌ حضاريةٌ تمتدُّ، بأَعلامها ومعالِمها، وسْعَ هذا الكوكب.
لبنان “دولة صغيرة”؟ صحيح: مساحته (10452 كلم مربَّع) ضئيلةٌ حيال مساحاتٍ أُخرى لدُوَل شاسعة. وهذا واقع لا يَضيرُه أَن تقاسَ به “الدولةُ” لا “الوطن”. فللدَولة سُلْطةٌ على مساحتها فقط، لا شِبْرَ واحدًا خارجَها. بينما الوطن لا تُحَدُّ سُلْطته لأَنه خارجَ كل حدود ومساحات. هوذا الفاتيكان “الدولة”: مساحتُه أَقلُّ من نصف كلم مربَّع (تحديدًا 490 أَلف متر مربَّع)، وأَهلُه نحو 890 شخصًا (هو أَصغر دولةٍ مساحةً وسكانًا)، بينما الفاتيكان “الوطن” ممتدٌّ على مليار ونصف مليار كاثوليكي في العالم (تحديدًا 17% من سكَّان الكوكب).
هكذا لبنان: جغرافياهُ وديموغرافياهُ تُحَدِّدان “الدولة” اللبنانية فقط، لا “الوطن” اللبناني المتَّسع إِلى أَربعة أَقطار الدنيا، وهذه خصيصَتُه العبقرية. فَلْيَكُفَّ الجَهَلَة عن لفْظ “لبنان هذا الوطن الصغير”. وإِذا الدولة مُغْلَقَةٌ محصُورةٌ في ما سوى مساحتِها، فالوطنُ مفتوحٌ على الـمَهاجر اللبنانية التي ترَكَ فيها لبنانُ آثارًا وحضارةً، وله فيها أَعلامٌ لبنانيون تَعتزُّ بهم دوَلُ استضافَتِهم على أَرضها (ولو بتجنيسهم) كما يعتزُّ بهم لبنانُ الأَرض الأُم.
في 16 شباط (فبراير) 1946 تشكَّلَتْ “لجنة حقوق الإِنسان” في منظمة الأُمم المتحدة منبثقةً من المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي أُنيط به وضْعُ “شرعة حقوق الإِنسان” (أُعلِنَتْ لاحقًا من قصر “شايُّو” في باريس صباح الجمعة 10 كانون الأَول 1948). يومها كان دينامو المجلس واللجنة ومدوِّنَ الشُرعة لبنانيٌّ رؤْيويٌّ برُتبة وزير مفوَّض يمثِّل دولةً صغيرةً في عاصمة الدَولة العظمى، وكان مندوبَ تلك الدولة الصُغرى لدى الأُمم المتحدة… لبنانيٌّ من قريةٍ صغيرةٍ في الكورة تُدعى بطرّام، وهو يدعى شارل مالك.
هو هذا معنى لبنان الوطن. واضعُو “شرعة حقوق الإِنسان” وقارئوها ومُدْركوها اليومَ وكلَّ يوم، لا يسأَلون عن جغرافيا لبنان الضئيلة ولا عن ديموغرافياه القليلة، بل عن إِبداعوغرافيا هذا الوطن المعتاد أَن يشعَّ أَبناؤُه في العالم مناراتٍ مبدعةً من أَرضه الأُمِّ المبدعة. وهنا عبقرية لبنان الوطن.
“لبنان الكبير” الذي أَعلنَه الجنرال هنري غورو في الأَول من أَيلول 1920 – كما طالب البطريرك الياس الحويك – كان “الكبير” إِداريًّا فقط بتوسيع حدود “دولة لبنان” واسترجاع بيروت وطرابلس وعكَّار والبقاع وجبل عامل، وكانت السلطنة العثمانية سَلَخَتْها عنه.
أَمَّا لبنان “الوطن الكبير” فليس مِنَّةً من أَحدٍ، ولا من دولةٍ، ولا من قرارٍ أُمَميٍّ، بل هو من عبْقرية أَبنائه وتُراثه وإِرثه الساطع في التاريخ منذ فجر التاريخ. وهذا هو الوطن الخالد الذي نَنْتَسب إِليه، ونَفيْءُ إليه، ونَنْتَمي إِليه آمنين، حين تَسُوْءُ دولتُه وتُسِيْءُ سلطتُه.
بعد اليوم، كلما “اقْعَنْسَسَ” سياسيٌّ جاهلٌ (وما أَكثَرَهم بيننا)، وكلَّما “تَفَذْلَكَ” أَحدُ الجَعاثيث (جمع جَعثُوث = مواطن لا يستحقُّ نعمة الــمُواطَنَة) و”باض” عبارة “لبنان هذا الوطن الصغير”، أُرشقُوه بنظْرةِ قَرَفٍ واشمئْزازٍ وغضَب، وأَصيبُوه بتَصويب جَهْلِه أَنْ: “وطنٌ صغير؟ أَبدًا… دولةٌ صغيرة؟ نعم”. فنحن أَبناء هذا الوطن الذي حين نَعي أَهميتَه التاريخية والحضارية لا نَعود نأْتي له، نهار الانتخاب، بمسؤُولين جهَلَة ومستزلمين ومأْجورين وأُمِّيِّي حضارة، بل بمسؤُولين يستحقُّون أَن يشَكِّلوا سُلْطةً تجترحُ دولةً رؤْيويَّةً على مستوى عظمتِه.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).