خطّةُ ترامب وتحدّياتُ تطبيقها بالكامل
الدكتور ناصيف حتّي*
كما توقّعَ معظم المراقبين، سارَ تنفيذ المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب (المؤلّفة من 20 بندًا) —التي تنصُّ على الإفراج عن الإسرائيليين المحتجزين، سواء أكانوا أحياءً أم أمواتًا، يعقبها إفراجٌ إسرائيلي عن نحو 1950 أسيرًا فلسطينيًا— بنجاح، رُغم عقباتِ عدة اعترضتها وأمكن احتواؤها ومعالجتها. وقد دفع في هذا الاتجاه ازديادُ حالة الحصار الديبلوماسي التي تواجهها إسرائيل نتيجة حربها المفتوحة على غزة، واعتمادها شبه الكامل على الدعم الأميركي، ما يجعلها غير قادرة سياسيًا على رفض خطة ترامب أو المجازفة بإسقاطها وتحمّل تبعات ذلك داخليًا وخارجيًا.
بدورها، تُشكّل قمة شرم الشيخ عاملَ ضغطٍ إضافيًا في هذا الاتجاه. فبحسب رؤية معظم المشاركين فيها —باستثناء الولايات المتحدة— يُفترَضُ أن يرتبطَ بدء تنفيذ خطة ترامب بالتحرّك نحو تسويةٍ قائمة على حلّ الدولتين، وفق ما نصّ عليه “بيان نيويورك” الأخير. ويُشار في هذا السياق إلى أنَّ البند التاسع عشر من خطة ترامب، وبعد استعراضِ مجموعةٍ من الشروط المُسبَقة، ينصُّ على أنَّه “قد تتهيّأ الظروف أخيرًا لفتح مسارٍ ذي مصداقية نحو تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية”. غير أنَّ هذا النصّ يأتي بصياغةٍ فضفاضة، تُظهرُ انفتاحًا شكليًا على الطروحات الدولية، من دون التزامٍ فعلي أو ضمانات واضحة، إذ يتركُ المجال مفتوحًا لتفسيراتٍ متعدّدة وشروطٍ قابلة للتبدّل والتملّص.
الشروطُ التي تطرحُها الخطة الأميركية والتي تقومُ على إلغاءٍ كُلّي لدور الفصائل الفلسطينية المختلفة، “حماس” وغيرها، و”لتنظيف غزة” من السلاح وكافة البنى العسكرية وغيرها التي قد تسمح بالمقاومة في مرحلةٍ مقبلة، ستؤدّي بدون شك إلى مزيدٍ من التعقيدات مستقبلًا في مساِر الاستقرار الضروري والمطلوب لإعادة الحياة الطبيعية (هذا إذا أمكن تسميتها بذلك) إلى القطاع.
ولا بُدَّ من التذكير أنه بالنسبة إلى السياسة الإسرائيلية فإنَّ المطلوبَ فك الارتباط العضوي في حقيقة الأمر وفي الواقع بين قطاع غزة والضفة الغربية. في المنظور الإسرائيلي الفعلي يجري الحديث عن شعبين مختلفين لا يُفتَرَضُ أن تكونَ هناك علاقةُ تأثُّرٍ أو تأثير بينهما. يعكسُ ذلك بالطبع الرؤية الإسرائيلية الحاكمة حاليًا والتي تعتبر أنَّ غزة هي مشكلة أمنية بالنسبة إليها فيما الضفة الغربية هي جُزءٌ من دولة إسرائيل الكبرى، “إسرائيل التاريخية”، التي يجري إعادةُ بنائها وتحقيق ذلك بقوة وبسرعة.
تتراكم عناصر كثيرة تشكّلُ تحدّياتٍ جدية أمام المرحلة الثانية في خطة ترامب، هذا إذا ما حدثت أيضًا تعثّرات في المرحلة الأولى بعد عملية الانطلاق وخلال مسار التنفيذ. يمكنُ تلخيص الاستراتيجية الإسرائيلية في هذا الإطار كما يلي: السعي إلى عزل غزة كليًا عن تحوّلات الصراع في الضفة الغربية، فيما تتصاعد العمليات الإسرائيلية هناك بهدف استكمال ضمٍّ فعلي للأرض من دون إعلان “ضمّ رسمي”، تلبيةً لمطلب الإدارة الأميركية. لكنَّ هذا الأمر يبقى بعيدًا كل البُعد من الواقع الفلسطيني؛ إذ يُمكِنُ إحداث تقطيع بالقوة في الجغرافيا الوطنية لشعبٍ مُعَيَّن، الشعب الفلسطيني في هذه الحالة، ولكن لا يُمكِنُ إحداث انفصال في الهوية الوطنية لشعبٍ مُعَيَّن، الشعب الفلسطيني في هذه الحالة، وما تحمله هذه الهوية من مشاعر تضامنية تنعكس بالطبع في سلوكيات فردية وجماعية. هذا الأمرُ من أهمِّ دروس التاريخ: تاريخُ الأُمم التي عاشت تحت الاحتلال.
تتضمّن خطة حكم غزة خلال فترة زمنية مفتوحة في الزمان إقامة هيكل سلطة يقوم على مستويين متوازيين: الأول إداري–تنظيمي يتولّى شؤون الحياة اليومية ويكون فلسطينيّ الطابع، والثاني سياسي–إشرافي بالمعنى الواسع للسياسة، يُدار على نحوٍ دولي بإشراف الرئيس الأميركي وبمشاركة رؤساء دول وشخصيات دولية أخرى. ورُغمَ التعقيدات المحيطة بمسارٍ من هذا النوع، فإنَّ نجاحه يظلّ مشروطًا بوجود خريطة طريق واضحة وجدولٍ زمني محدد —ولو بقدرٍ من المرونة— يقودان نحو قيام الدولة الفلسطينية وفق مبدَإِ حلّ الدولتين. فربطُ الإدارة الانتقالية بهذا الأفق السياسي هو ما يمنحها المصداقية والدعم اللازمَين على أرض الواقع. غير أنَّ الخطة الأميركية، كما تبدو حاليًا، تفتقر إلى هذا الربط الجوهري، وهو ما يُنذرُ بتعقيد تنفيذها ويقلّل فرص نجاحها في المديين المتوسط والبعيد.
نقطةٌ أخيرة لا بُدَّ من التأكيد عليها وهي أنَّ إسرائيل ستجد نفسها أكثر قدرة بعد التخلُّص النسبي من “أعباء وأثقال” حرب غزة لتعزيز حربها على لبنان المستمرة والمتزايدة منذ اتفاق وقف القتال الذي تمَّ التوصُّل إليه في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، وكأنما هذا الاتفاق يتطبقُ بشكلٍ أحادي على لبنان، وإسرائيل غير مَعنية بتنفيذه. وهذا موضوعٌ لحديثٍ آخر.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).