هل انتهى زمنُ موسكو في دمشق؟ قراءةٌ في مرحلةِ ما بَعدَ الأسد

بعد سقوطِ نظام الأسد، بدا أن الوجود الروسي في سوريا يقتربُ من نهايته. لكن موسكو سرعان ما أعادت التمَوضُع بذكاء، محافظةً على قواعدها ومكانتها، ومثبتة أن نفوذها في الشرق الأوسط لم ينتهِ بعد.

وزيرا خارجية روسيا، سيرغي لافروف، وسوريا، أسعد الشيباني: فتح صفحة جديدة في علاقات البلدين.

هانا نوتِّي*

عندما أطاحت الفصائل المسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام” الديكتاتور السوري بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، اعتقدَ كثيرٌ من المراقبين أنَّ أيامَ روسيا في سوريا باتت معدودة. فعلى مدى عقود، نسجت موسكو علاقاتٍ وثيقة مع عائلة الأسد؛ وأقل من عامٍ مضى، كانت طائراتها تقصفُ مناطق خاضعة لسيطرة الهيئة. ومع تولّي أحمد الشرع، زعيم “هيئة تحرير الشام”، زمام السلطة في دمشق، حذّرت مجلة “الإيكونومميست”من أنَّ الوجودَ العسكري الروسي في البلاد “معلّقٌ بخيطٍ رفيع”. حتى الروس أنفسهم شعروا بالقلق. فبعد سقوط الأسد مباشرة، أعربت الصحف الروسية عن أسفها لفقدان حليفٍ رئيس في الشرق الأوسط، وأبدى المدوّنون العسكريون ذعرًا بشأن مستقبل القواعد والنقاط الروسية في سوريا.

غير أنَّ روسيا خالفت التوقعات منذ ذلك الحين، إذ حافظت على قاعدتَيها الرئيستين على الساحل السوري—القاعدة البحرية في طرطوس وقاعدة حميميم الجوية—بل وتمكّنت من ترسيخ وجودها في شمال شرق البلاد. تحرّك الديبلوماسيون الروس سريعًا للتواصل مع الحكّام الجدد في دمشق، مُستفيدين من صورة روسيا كقوة عظمى في نظر السوريين، ومن رغبةِ الشرع في بناء علاقات إيجابية مع جميع الحكومات الخارجية. وفي المقابل، تبنّى قادة سوريا الجدد نبرةً بنّاءة تجاه موسكو، على أمل الحصول على الطاقة والحبوب والدعم الروسي في التصويت داخل الأمم المتحدة وربما حتى على السلاح.

ومن خلال الانخراط مع روسيا، يسعى نظام الشرع أيضًا إلى ردعِ الموالين السابقين للأسد عن إعادة تنظيم صفوفهم، وإرسال رسالة إلى الدول الغربية بأنَّ سوريا قادرة على البحث عن بدائل في مجالَي الطاقة والدفاع، وربما حتى إلى الحدِّ من العمليات العسكرية الإسرائيلية داخل أراضيها.

أطرافٌ أُخرى مَعنيّة تريدُ هي أيضًا أن تحتفظَ روسيا بوجودٍ متواضع في سوريا؛ فمع تنافس قوى متعددة على النفوذ، برزت روسيا كخيارٍ مُفضّل لدى الجميع لتوازن القوى. فكلٌّ من إسرائيل وتركيا ترى أنَّ النفوذ الروسي يمكن استغلاله لمنع الطرف الآخر من أن يصبحَ قويًّا أكثر من اللازم. أما قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، وهي ميليشيا يقودها الأكراد، فتأمل في أن تقفَ روسيا إلى جانبها إذا تخلّت عنها الولايات المتحدة أو حاولت دمشق القضاء على تطلّعاتها نحو الحكم الذاتي.

إمكانيةُ احتفاظ روسيا بموطئ قدمٍ في سوريا أثارت بعضَ القلق لدى المسؤولين الأوروبيين. ففي الربيع الماضي، ناشد أعضاءٌ في البرلمان الأوروبي الحكومة السورية الجديدة أن تُحظّرَ الوجود العسكري الروسي. لكن حتى لو تمكّنت موسكو من الحفاظ على قواعدها، فلن تكونَ بين اللاعبين الأساسيين الذين يُشكّلون مستقبل سوريا. فالغارقة في حربِ أوكرانيا تفتقرُ ببساطة إلى الموارد المالية والعسكرية اللازمة لذلك، وستتجاوزها دول الخليج العربي وتركيا، وربما الولايات المتحدة والدول الأوروبية إذا قررت تكثيف انخراطها. وعلى القادة الأميركيين والأوروبيين أن يتقبّلوا فكرة أنَّ روسيا ستبقى بوجودٍ محدود في سوريا، وأن يتجنّبوا إجبار الحكومة الجديدة على الاختيار بين مساعدتهم أو روسيا. وأفضل وسيلة أمام واشنطن وشركائها لمنع عودة طموحة لروسيا هي تقديم دعم صبور ومنسّق لحَوكمة سوريا وتعافيها الاقتصادي.

صديقُ عدوّي؟

ترجعُ علاقاتُ روسيا مع عائلة الأسد إلى الحرب الباردة، حين رسّخَ حافظ الأسد موقع سوريا داخل فلك الاتحاد السوفياتي. وعندما هبط بشار بالمظلة إلى السلطة في العام 2000، لم يكن يحملُ أيَّ ودٍّ خاص لروسيا. فقد سافر أولًا إلى لندن وباريس قبل أن يزورَ موسكو. ومع ذلك، حافظ على علاقاتٍ ودّية بين سوريا والكرملين. وبعد عقدٍ من الزمن، حين واجهَ انتفاضةً سلمية بقمعٍ دموي تحوّلَ إلى حربٍ أهلية، وَفّرَت روسيا الحماية لنظامه من العقوبات في مجلس الأمن الدولي ، ثم أطلقت في النهاية تدخّلًا عسكريًا لإسناده.

وبتدخّلها، كسبت روسيا نفوذًا هائلًا على مسار الحرب في سوريا. ففي العام 2017، نشرت الشرطة العسكرية الروسية في ما يسمّى بمناطق خفض التصعيد، في مبادرةٍ حظيت أيضًا بدعم إيران وتركيا. ومن خلال الحفاظ على وجود عسكري في البلاد والتفاوض لاحقًا على صفقات إجلاءٍ للمتمرّدين، راكمت روسيا خبرة ثمينة في التعامل مع جماعات مسلحة مختلفة. فقد ساعدت على تسوية توتّراتٍ محلّية، وفرضت ترتيباتٍ أمنية في أنحاء البلاد، وأقامت علاقاتٍ يمكنها الاستفادة منها اليوم. كما عزّزت وجودها العسكري على الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي (الناتو) عبر توسيع وتحديث منشآت طرطوس وحميميم.

ولطالما كان على الدول الأخرى المتدخّلة في سوريا أن تأخذ روسيا في الحسبان. فدول الخليج العربي، التي دعمت بعض الفصائل لفترة من الزمن؛ وإيران و”حزب الله”، اللذان تعاونا مع روسيا ميدانيًا؛ وكذلك إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة— كلها حافظت على قنوات تنسيق لتجنّب الصدام مع القوات الروسية.

لكن عندما غزت روسيا أوكرانيا في العام 2022، انشغلت موسكو وتراخت في سوريا أيضًا. فقد اعتقد الكرملين أنه يستطيع الحفاظ على الوضع القائم السوري بجهدٍ محدود ووجودٍ عسكري أقل. ومع اتساع رد إسرائيل على هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كثّفت تل أبيب ضرباتها للأهداف المرتبطة بإيران داخل سوريا. وردّت روسيا بزيادة دورياتها قرب هضبة الجولان المحتلة من إسرائيل. كما صعّدت قصفها لمحافظة إدلب، التي يسيطر عليها معارضون للأسد، في محاولةٍ لردعهم عن التقدم. لكن هذه الإجراءات جاءت متأخرة وغير كافية. ففي أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، شنّ المتمردون هجومًا خاطفًا، فيما وقفت القوات الروسية بمعظمها على الحياد، تاركة الأسد لمصيره.

لا أعداءَ دائمون

توقّع كثيرٌ من المراقبين أن يؤدّي سقوط الأسد إلى إنهاء نفوذ روسيا في سوريا. فخلال أيامٍ، دعا متحدث باسم الحكومة الانتقالية الجديدة روسيا إلى إعادة النظر في وجودها في البلاد. لكن موسكو لم تُضيّع وقتًا في مغازلة الحكام الجدد. ففي ليلة وضحاها، توقّف التلفزيون الروسي عن وصف “هيئة تحرير الشام” بأنها “جماعة إرهابية”. وفي الأمم المتحدة مطلع كانون الثاني (يناير) 2025، أشاد الديبلوماسيون الروس بالحكومة الانتقالية السورية لكونها تتصرّف “بكفاءة”. وفي وقتٍ لاحق من الشهر ذاته، زارت وفود روسية دمشق لإجراء مفاوضات واسعة النطاق شملت مستقبل القواعد الروسية، والاستثمارات في حقول الغاز والموانئ، وبحسب وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)، طالبت الحكومة بأن تدفع روسيا تعويضات لدعمها الأسد وأن تساهم في إعادة إعمار سوريا. كما طلب قادة سوريا الجدد من الحكومة الروسية تسليم الأسد، الذي كان فرّ إلى موسكو. من غير المرجّح أن يقوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بذلك أبدًا –حتى بعد أن أصدرت السلطات السورية مذكرة توقيف رسمية بحقه—لأنه يريد الحفاظ على سمعته كزعيم يقف بجانب شركائه المستبدّين حتى النهاية.

كانت روسيا حريصة بشكلٍ خاص على الحفاظ على وصولها إلى قواعدها العسكرية. فمع مرور السنوات، أصبحت طرطوس وحميميم مركزَين لوجستيين حيويين للعمليات الروسية في أفريقيا. وفي أعقاب سقوط الأسد مباشرة، قامت روسيا بسحب أصولٍ بحرية من طرطوس وبتجميع طائراتها العسكرية، الموزَّعة على قواعد أخرى في البلاد، في قاعدة حميميم. وفي شباط (فبراير)، لمح وزير الدفاع السوري الجديد إلى أنه سيُسمَحُ لروسيا الاحتفاظ بقواعدها طالما أنَّ وجودها يخدم مصالح سوريا. وقال: “في السياسة لا أعداء دائمون”.

بالتفاوض حول قواعدها، ذكّرت روسيا سوريا بالدعم الذي يمكن أن تقدّمه. ففي الربيع، أرسلت روسيا النفط والديزل والقمح إلى سوريا. ووفقًا لوكالة رويترز، ستتولى شركة “غوزناك” الروسية، الخاضعة لعقوبات من بريطانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والتي ظلت منذ زمن طويل تطبع العملة السورية، إصدار الأوراق النقدية الجديدة للبلاد. ومع امتلاكها حق النقض في مجلس الأمن الدولي، يمكن لروسيا أن تساعد على رفع تصنيفات الإرهاب التي تفرض حظرًا على السفر وتجميدًا للأصول، عن الشرع وآخرين مقربين منه. وبما أنَّ الجيش السوري الجديد مدرَّبٌ على الأنظمة السوفياتية والروسية، فقد يأمل أيضًا في الحصول على أسلحة روسية مستقبلًا، خصوصًا وأنَّ الكثير من قدراته العسكرية قد دمّره القصف الإسرائيلي خلال العام الماضي.

يكره كثيرٌ من السوريين موسكو بسبب القنابل التي ألقتها بلا عدد على المدن السورية دعمًا للأسد. لكن السوريين لم ينظروا إلى روسيا كما نظروا إلى إيران: طائفية أو عازمة على تغيير النسيج الاجتماعي لمجتمعهم. بل اعتُبرت روسيا قوة عظمى براغماتية، قاسية، وواقعية، ذات تاريخ طويل في الشرق الأوسط. هذه التصوّرات—إلى جانب حقيقة أنَّ ماهر الشرع، شقيق أحمد، له روابط عائلية مع روسيا—تفسّرُ أيضًا لماذا لم تُطرد روسيا من سوريا بشكلٍ كامل.

وأظهرَ حكام سوريا الجدد منذ وقت مبكر استعدادهم لبناء علاقة جديدة مع ما أطلقوا عليه “ثاني أقوى دولة في العالم”. ففي تموز (يوليو)، زار وفد سوري مؤلف من عشرين مسؤولًا، بينهم وزراء الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات وماهر الشرع، الذي يشغل منصب الأمين العام للرئاسة، روسيا. واتفق البلدان على إعادة تفعيل اللجنة السورية-الروسية المشتركة لإعادة تقييم الاتفاقيات المبرمة في عهد الأسد وبحث التعاون الاقتصادي. واعتبرت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) الزيارة بداية عهد جديد في العلاقات.

نوايا مشكوك فيها

على حكّام سوريا الجدد أن يتعاملوا مع الكثير من التحديات في سعيهم إلى استقرار المشهد الداخلي المتشظّي للبلاد. ففي آذار (مارس)، قتل مقاتلون سنّة أكثر من ألف شخص، كانت غالبيتهم من العلويين، على الساحل السوري. وفي تموز (يوليو)، قُتل المئات في اشتباكات بين مقاتلين بدو ودروز في جنوب غرب البلاد. وقد استولت إسرائيل على منطقة عازلة ملاصقة لهضبة الجولان التي تسيطر عليها، وواصلت ضرب مواقع عميقة داخل سوريا، حتى مع بدء البلدين مفاوضات بشأن اتفاق أمني.

وفي هذا السياق، يخدم الانخراط الثنائي لدمشق مع موسكو أهدافًا إضافية عدة. فهو يبعث برسالة إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية بأنَّ لدى سوريا أبوابًا أخرى يمكن أن تطرقها. كما إنَّ الديبلوماسية الروسية-السورية قد تُفقد من تبقّى من الموالين للأسد داخل البلاد أيَّ وَهمٍ بإمكانية اللعب على التناقض بين الكرملين والشرع. وقد يأمل الحكام الجدد في سوريا أن يستغلَّ فلاديمير بوتين علاقته الجيدة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإقناع إسرائيل بكبح أنشطتها العسكرية على الأراضي السورية. وفي ظلِّ سعي حكام سوريا الجدد إلى سياسة “صفر مشاكل” مع القوى الأجنبية، يبدو أنهم يرون من المفيد الحفاظ على علاقةٍ ودّية مع الكرملين.

لإسرائيل أيضًا أسبابها الخاصة في الرغبة ببقاء وجود روسي متواضع في سوريا. فهي تنظرُ إلى الشرع باعتباره إسلاميًا متشدّدًا ذا نوايا مشكوك فيها، وتخشى من تنامي دور تركيا—التي تتهمها بمعاداة السامية ونشر الإسلام السياسي—في سوريا والمنطقة الأوسع. وتريد تركيا سوريا شديدة المركزية كي تقضي على طموح الأكراد السوريين بالحكم الذاتي. أما إسرائيل، فتفضّل سوريا لا مركزية- ليس بالضرورة من باب المبدَإِ، بل لأنها لا تثق بحكام البلاد الحاليين، وتعتقد أنَّ سوريا مُجزَّأة ستكون أسهل في التعامل معها. ويبدو أنَّ قادة إسرائيل يعتقدون أنَّ الوجودَ الروسي قد يساعد على إبقاء البلاد مقسّمة إلى مناطق نفوذ.

وتشاركُ تركيا إسرائيل في رؤية الفائدة من وجودٍ روسي في سوريا، وإن لأسبابها الخاصة. فقد تابعت أنقرة بقلق الهجمات الجريئة لإسرائيل والتحرُّكات السعودية في سوريا. وفي السابق، موّلت الرياض “قسد”. وتأمل تركيا في أن تتمكن من الاعتماد على روسيا لردع إسرائيل، ولدعم رفع تصنيف الشرع كـ”إرهابي” في مجلس الأمن الدولي، ولتزويد الجيش السوري الضعيف بالأسلحة، ولتأييد موقف أنقرة ضد الأكراد السوريين. مثل هذه الآمال ليست بلا أساس، إذ إنه في فترة حكم الأسد، وافقت روسيا على العمليات العسكرية التركية ضد “قسد”، وقامت بدوريات مشتركة مع تركيا في أجزاءٍ من شمال سوريا.

ومع ذلك، ربما تكون “قسد” هي الأكثر اعتمادًا على روسيا. فالمجموعة مُهدَّدة بفقدان حكمها الذاتي مع سعي الشرع إلى ترسيخِ سلطته. وخلال الأشهر الأخيرة، كثّفت قوات سوريا الديموقراطية تواصلها مع روسيا بهدف كسبِ ميزةٍ على تركيا والحكومة في دمشق، وكذلك للحصول على حليفٍ إضافي في حال نفّذت الولايات المتحدة وعدها بتقليص وجودها العسكري في شمال شرق سوريا أو إنهائه كليًا. وقد بدأت روسيا فعلًا التحرُّك. فمنذ الربيع والصيف، نشرت موسكو أنظمة دفاع جوي ووحدات حرب إلكترونية—تتيح لها التشويش على الإشارات اللاسلكية—في قاعدتها بمطار القامشلي (الواقع في منطقة ذات غالبية كردية)، ووسّعت مساكن قواتها، وعززت محيط القاعدة. وعلى الرغم من تعاونها مع تركيا، فقد دعت روسيا في الماضي إلى حماية حقوق الأكراد وعرضت التوسّط بين قادة الأكراد والحكومة المركزية في دمشق. تسعى كل من إسرائيل وتركيا وقوات سوريا الديموقراطية إلى استغلال وجود روسيا لتحقيق أهداف متناقضة في جوهرها؛ وبالنظر إلى براعة موسكو في المناورة سابقًا، فإنَّ لكلِّ طرفٍ سببًا يجعله يأمل أن تدعم روسيا طموحه الخاص.

خاسرة لكن لم تُقصَ بعد

في المستقبل المنظور، ستبقى سوريا مُجزَّأة وضعيفة، بينما تتنافس القوى الخارجية على التأثير في دمشق وعلى مناطق نفوذ غير رسمية. وفي هذا المشهد المُتقلّب، ستكون روسيا مجرّدَ لاعبٍ بين لاعبين عديدين، وبعيدًا من أن تكون الأكثر أهمية. ومع استعداد الشرع لزيارته الأولى إلى روسيا، المقررة في تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، يبدو أنَّ موسكو تفادت الطرد من سوريا. لكن أكثر ما تحتاجه سوريا الآن هو الدعم الاقتصادي، والاستثمار المالي، ورفع ما تبقّى من العقوبات الدولية. ولتحقيق هذه الأهداف، ستكون دول الخليج العربي وتركيا والولايات المتحدة والدول الأوروبية هي الفاعلة الرئيسة، لا روسيا. وحتى قبل غزوها لأوكرانيا، لم تَكُن لدى روسيا القدرة الكافية للتركيز على تعافي سوريا الاقتصادي وإعادة إعمارها؛ أما الآن ومع انغماس مواردها في أوكرانيا، فإنَّ قدرتها على ذلك أقل بكثير.

وإذا استطاعت روسيا أن تُحافظَ على قواعدها وفي الوقت ذاته تواصل إثبات فائدتها لمختلف القوى التي تتنافس على تشكيل مستقبل سوريا، فسيكون ذلك إنجازًا بحد ذاته. صحيحٌ أنَّ نفوذَ روسيا في سوريا، وما ارتبطَ به من ثقلٍ إقليمي، لن يعودَ إلى ما كان عليه قبل سقوط الأسد، لكن روسيا ستحتفظ بموطئِ قدمٍ عسكري يمكن أن تبني عليه مستقبلًا، ومن خلاله تواصل دعم عملياتها في باقي الشرق الأوسط وأفريقيا، خصوصًا بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا. فـ”فيلق أفريقيا”، وهو تشكيلٌ شبه عسكري روسي، يعملُ حاليًا على تعزيز وجوده في غرب أفريقيا، وهي منطقة تراها موسكو بالغة الأهمية. إنَّ الحفاظَ على قواعدها اللوجستية في سوريا قد يساعد روسيا على التوسُّع هناك في المستقبل.

ومع ذلك، لا ينبغي على الدول الغربية أن تُعاقب حكام سوريا الجدد بسبب انخراطهم مع روسيا في إطار سياستهم الخارجية البراغماتية متعددة الاتجاهات. فعلى سبيل المثال، بعد سقوط الأسد مباشرة، اقترح وزير الخارجية الهولندي كاسبار فيلدكامب أن ينظرَ الاتحاد الأوروبي في رفع العقوبات فقط إذا طردت سوريا روسيا. وقال: “نريد الروس خارجًا”. لكنَّ الشرع لا ينوي إعادة بلاده إلى فلك روسيا. بل إنه يُحافظُ على توازُنٍ دقيق بين روسيا وخصومها. ففي أيلول (سبتمبر)، أعادت سوريا علاقاتها الديبلوماسية مع أوكرانيا. ومن غير المرجح أن تُستَخدَم القواعد الروسية كقناةٍ لعودة إيران إلى سوريا، إذ من المرجح أن يقضي الجيش الإسرائيلي على مثل هذا المسعى في مهده.

ومع مواجهة السلطات السورية تحدّياتٍ جسيمة، يبدو من الحكمة ألّا تستعدي روسيا. وبدلًا من الهلع من مناورات موسكو أو ربط الدعم الغربي بانقطاع سوريا الكامل عن روسيا، ينبغي على القادة الأميركيين والأوروبيين أن يركزوا على مساعدة السوريين على التعافي بعد عقدٍ من الحرب الأهلية ونصف قرن من الاستبداد. إنَّ أفضلَ طريقةٍ لضمان ألّا تسمح سوريا لروسيا باستغلال أراضيها مستقبلًا هي بناء علاقاتٍ جيدة مع دمشق اليوم.

  • هانا نوتّي هي مديرة برنامج أوراسيا للحد من الانتشار النووي في مركز جيمس مارتن لدراسات الحد من الانتشار، وزميلة أولى غير مقيمة في برنامج أوروبا وروسيا وأوراسيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى