الرَّوشة والوَرشَة

رشيد درباس*

كَناطِحٍ صَخْرةِ يومًا ليوهِنها
الأعْشى

موقعةُ الروشة كانَ يجبُ تلافيها، رُغمَ أنها كانت مقصودة لذاتها. أراد “حزب الله” أن يردَّ على قرار الحكومة حول حصرية السلاح، بإثباتِ عجزها عن حماية الصخرة من إسقاطٍ شعاعي.. ثم مضى أبعد من ذلك بأنَّ خصَّ بالتحية قائد الجيش والمدير العام لقوى الأمن الداخلي، في نيّةٍ واضحة لإظهار رئيس الحكومة معزولًا عن أدواتِ الحكم، يُغرّدُ منفردًا، ويتّخذُ القراراتَ بلا معادل موضوعي. لكنَّ الأمرَ يَحتملُ تفسيرًا أبعد، إذ لا عداوة معروفة بين الحزب والدكتور نوّاف سلام، رُغمَ عدم تسميته في الاستشارات، فهو يشترك بوزيرين في حكومته، ومُوافِقٌ على البيان الوزاري الذي محضه نوابه ثقتهم. لا أستبطن النيّات بقولي هذا، بل أُظَهِّرُ النتائج التي نجمت عن تلك القعقعة، وأوّلها أنَّ الحزبَ لا يؤمن بوحدة الحكم بل يذهب في تأويله إلى أنَّ قرارَ مجلس الوزراء في الخامس من آب (أغسطس) تقع مسؤوليته على رئيس الحكومة مع بعض الوزراء، كما يُحَيِّدُ رئاسة الجمهورية، وينسب للقوات المسلحة استقلالية افتراضية عن الإمرة السياسية.

علينا الإقرار أنَّ حربَ المُلافظة، والجدل العقيم، قد باتت بلا مُتابعين، إذ مَن يُصدّقُ أنَّ الدكتور نوّاف سلام استطاعَ أن يفرضَ على رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء موقفه في حين أنَّ القرارَ المشكو منه هو من صميمِ خطابِ القسم، وتجسيد للبيان الوزراي؟ ولكن أزمة الحزب الناجمة عن نتائج العدوان الإسرائيلي، تجري ترجمتها بإثباتِ وجودٍ داخلي صالح للاستثمار الخارجي، بقدر ما هو مدعاة لمزيد من الذرائع الإسرائيلية من أجل جولاتٍ جديدة من الهَمَجيّة.

“حزب الله” وكثير من بيئته، ليسوا مُستَعدّين بعد للتكيُّف مع فكرة الدولة المُوَحّدة، ولهذا يعوِّلون على إظهار فشلها وتشتتها، وتناقض مواقف السلطات. في الماضي، كانت الدولة تضبطُ إيقاعها، قدر المتاح، في حدود الخطوط الحمر التي يرسمها الحزب، مع أفضلية باذخة له بالتدخُّل في المرافق كلها، وتشكيل الحكومات واختيار بعض الوزراء والوزارات. لبنان السابق إذن، كان يتحدّث بلغة يرضى عنها “حزب الله”، أما لبنان الذي يتكلم بلغةٍ مُناقِضة فلا بُدَّ من كشف عورته، وإظهار ضعف دولته، وتبعيض مؤسّساته، وتعريته أمام الدول التي تعهّدَ لها بما لم ولن يقدر على تنفيذه.

بل إنَّ صخرة الروشة عندما تحوّلت شاشة عرض، أعلنت للبنانيين أن تفاؤلهم بقيام الدولة، كان على شفير الانتحار، لولا عناية ما.

من المفارقات أنَّ “المقاومة” تُحَمِّل الحكومة مسؤولية إعادة إعمار ما دمّرته إسرائيل، فيما الحكومة تحتجُّ بأنَّ لا إعمار قبل تسليم السلاح، وفقًا لشروط الدول المانحة، كأننا بذلك نعود إلى حكاية إبريق الزيت، ومعرفة مَنْ قبل: الدجاجة أم البيضة.

لقد آن الأوان للانتقال من المقاربات العقيمة إلى مقاربات متاحة وقابلة للتحقيق، آخذين بعين الاعتبار بعض الأمور التي باتت من الحقائق التي يجري التعامي عنها، وأولها أنَّ اختلالَ ميزان القوى السياسي والعسكري الذي أصاب “حزب الله”، كانَ بفعلٍ خارجي لا داخلي وهذا يقتضي من القوى السياسية التي تُطالبه بالإذعان لنتائج الحرب أن تنبذَ لغة الانتصار، إلى مشروع وطني واسع الصدر والرؤية، على قاعدة أنَّ استعمالَ القوة من أجل الخروج من الحالة الشاذة الراهنة سيزيد الأمر  شذوذًا.

ثاني الحقائق أنَّ القرارَ الشجاع الذي أتخذته الحكومة في الخامس من آب (أغسطس) أصبح مرجعيةً وطنية يركن إليها في  مراحل استعادة الدولة لسلطتها. وعليه فإنني من القائلين إنَّ الحزبَ نوى أن يذهبَ إلى الروشة لتذكيرنا بالسابع من أيار (مايو)، وكان هذا خطأ جسيمًا سيعود عليه بمزيد من الملامة، ولكن عندما جرى التصدّي للخطة، بالاعتماد على تسوية إدارية هشّة مع المحافظ ونشر بعض العناصر الأمنية، وقعت خطيئة الذهاب إلى مجابهة غير متكافئة استثمرتها الممانعة لإعلان هزيمة الدولة.

ثالث الحقائق أنَّ العهدَ الجديد بحكومته ومؤسّساتها، تخطّى فترة السماح التي يمنحها المواطنون، بل إنَّ شكوكًا حقيقية تدورُ حول مدى انسجام مكوّنات الحكم، وتآلفها وانخراطها في تنفيذِ مخطّطٍ إنمائي واجب الوجود، في ظلِّ مراوحة اقتصادية ومصرفية وسياسية هي نذير عقم لا بشير خصوبة.

بكلِّ ما أوتيتُ من تعاطُفٍ مع العهد وحكومته، أقول بملء القلم، إنَّ قرار الخامس من آب (أغسطس) هو أول الطريق ورأس الجسر الذي يجب حمايته وعدم التلهّي بمناوشات لن تفضي إلى شيء؛ بمعنى أنه إذا كانت فئات معينة ما زالت مُمتنعة عن الالتزام بالدولة، فإنها تستطيعُ الانتظار حتى ترى بأعينها أنَّ بقية المناطق بدأت تنعم بالخير بسبب انضباط أهلها بالقوانين والأنظمة. الحصافة تقتضي أن تنطلقَ الحكومة بكلِّ قوّتها إلى إعمارٍ ليس موقوفًا على الدول المانحة، لكنه متاح إذا توفّرت له الجرأة وتحلّى أهل الحكم بالابتكار. هنا أضرب مثلًا بأنَّ فكرة تشغيل مطار رينيه معوض، فكرة عظيمة، ولكن الوصول إليه يحتاج إلى سكة حديدية بين طرابلس والحدود السورية، فهل جربت الدولة أن تستدرجَ عروضًا لتنفيذ هذا المشروع من خلال نظام الـ “B.O.T”؟ وأضربُ أيضًا مثلًا ثانيًا بالمناطق السورية التي عانت مما عانت، كيف أنها تنعم بالكهرباء المستمدة من تركيا، من خلال استعمال بطاقات التشريج.

الأمثلة أكثر من أن تُعَد، وهذا يقتضي أن تستدعي الحكومة مؤتمرًا لرجال أعمال لبنانيين وعرب وأجانب، تطرح فيه بعض المشاريع الحيوية مع تفاصليها وشروطها بغرض التشبيك الذي طال انتظاره بين القطاعين العام والخاص.

الروشة يرد عليها “بالورشة”، لا بإقامة المآتم، ولا بمعالجة المريض في إجلاسه بقاعة الانتظار، ريثما يصل الطبيب المفترض، والذي قد لا يأتي إلّا إذا أثبتنا أننا أبناء الحياة، لا جُلَّاس تعزية.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى