عامان على الطوفان.. “لو كنت أعلم”!

محمّد قوّاص*

لم يَعُد مهمًّا، في الذكرى الثانية لعملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، استعراضَ مفاصل ما جرى خلال 24 شهرًا. وربما كان الأجدى أن نستنتِجَ بجرأةٍ وتقييمٍ موضوعي صريح النتائج التي أفضى إليها ذلك “الطوفان”، والتي لا يمكن أن يكونَ مُطلِقوه قد غفلوا عن استشرافها وتوقع حدوثها. ومن دون البحث كثيرًا في ما وراء ذلك الحدث وكواليسه، يُمكنُ تخيّل أنَّ هناك في رأس القيادة التي أمرت بتنفيذ ذلك الهجوم من استذكَرَ تصريحَ زعيم “حزب الله” الراحل السيد حسن نصرالله بعد الحرب التي شنّتها إسرائيل على لبنان في العام 2006. قال حينها: “لو علمتُ أنَّ عملية الأسر كانت ستقود إلى هذه النتيجة لما قمنا بها قطعًا”.

وإن كان يجوز لنصرالله ألّا يتوقّع جسامة الرد الإسرائيلي بعد أول حرب منذ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في العام 2000، فقد شهد قادة حركة “حماس” قبل ذلك ست حروب شنّتها إسرائيل ضد قطاع غزة منذ سيطرة الحركة على القطاع في العام 2007، وخبروا ضراوة الفتك الذي ذهبت إليه إسرائيل من دون أن تُواجِهَ اعتراضًا دوليًّا، ومن دون أن تتمكّنَ الهيئات القانونية الدولية من ردعها عن الاستمرار في تكرار إجرامها في كل مرة.

ما يهمُّنا هذه الأيام ليس جرد حساب ما حدث خلال العامين المنصرمين. إنها كارثةٌ مُكتملة الأوصاف، شهدناها جميعًا، على الهواء مباشرة، في سابقة لم يعرفها العالم من قبل. كانت صورٌ نادرة مسرَّبة بشأن أهوال ما يُرتكَب في فيتنام وراء إطلاقِ دينامية أدّت لاحقًا إلى وقف الولايات المتحدة حربها هناك. بالمقابل، عجزت الإبادة، وفق التوصيف الأممي، التي ارتُكِبت بشكلٍ شفاف ومباشر، عن التعجيل منذ الأيام الأولى بوقف المقتلة على الفور.

على الأبواب المأمولة لانتهاء تلك الحرب هذه الأيام، ترتفعُ توقّعات الهيئات الإغاثية، وتتحدث عن أنَّ عددَ الضحايا المُقدَّر بحوالي 60 ألف قتيل قد يصل إلى 300 ألف. تُضافُ هذه الكارثة البشرية إلى الإبادة الحجرية المنهجية التي سعت إلى شطب قطاع غزة من خارطة الكوكب. وفيما فلسطينية غزة من عدمها رهينة بقاء الفلسطينيين وديمومة وجودهم على هذه الأرض، فقد أُضيف إلى ورش الإبادة مشاريع وقحة لتنفيذ “ترانسفير” جماعي يخلّي الأرض لأصحاب أحلام “الريفييرا” الموعودة. إنها مقامرة أكثر منها مغامرة. جلب “الطوفان” نكبة فلسطينية جديدة، ويجب الاعتراف بأن جرحها أشد إيلامًا من تلك التاريخية لعام 1948. وما يُعَدُّ للحرب الضروس من نهاية تتسرّب من غموض خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة، يستدرجنا إلى استخلاص دروس، أهمها التوقف عن ارتكاب الأوهام التي لا تأخذ بعين الاعتبار موازين القوى والمشهد الواقعي للعالم، والتي تستمد منطقها من العقائد الجامدة. كما إنَّ ذلك التفرّد في تقرير مصير الوطن والشعب لم يكن يومًا برهان حنكة أو دليل وطنية نقية.

لم تبدأ الحكاية الفلسطينية بحركة “حماس”، كما إنَّ حكاية المقاومة في لبنان لم تبدأ ب”حزب الله”. وإذا ما انتهت تجارب السابقين إلى خلاصات وتجارب وأمثولات تفسّر الواقعية، وإن كانت فاشلة في مواجهة عدوٍّ شرس، فإنَّ عدم الاستفادة من السلف وتجاربه، وحتى تسفيه نضاله واحتقار مساره، يقود حتمًا إلى تهوّرٍ غير محسوب وغير مسؤول يتّكل على عون متخيّل أو متوخّى غير مضمون.

سينسب “المنتصرون” الاندفاعة الدولية للاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى “الطوفان”، مستخفّين بأثمان الكارثة. غير أنه علينا جميعًا أن نستسلم لحقيقة أنَّ القضية لا يمكن أن تتقدّمَ إلّا من خلال بيئتها الواسعة. وجب أن نعترف بأن قممًا عربية وإسلامية وتحالفًا قادته السعودية، مدعومًا بدائرتيها الخليجية والإقليمية، هي التي دفعت العالم لتغيير بوصلته نحو ما قد يقود إلى نهايةٍ لهذه الكارثة. ربما للمؤرخين يومًا إصدار أحكامهم، وربما على من قرر “الطوفان” أن يعترفَ بما أقرّه من قال يومًا: “لو كنتُ أعلم”.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى