حساباتُ إسرائيل المُعَقّدة في السويداء
محمّد قوّاص*
تُدلي إسرائيل بدَلوِها في مسألةِ السويداء. واصلت قصفَ القوات التابعة لوزارتَي الدفاع والداخلية السوريتَين على الرُغم مما كشفه الإعلام الأميركي عن طلبٍ من إدارة الرئيس دونالد ترامب لوقف تلك الهجمات. والأرجحُ أنَّ دينامياتٍ إسرائيلية ذاتية تفرُضُ على حكومة بنيامين نتنياهو أن يكونَ لها موقفٌ ناري في شأنٍ باتت تعتبره من شؤونها الداخلية.
وقد كشفَ ما أعلن عنه المبعوث الأميركي توم برّاك عن تنسيقٍ جرى بين دمشق وإسرائيل بشأن دخول القوات السورية إلى السويداء، أنَّ الأمورَ جرت بسلاسةٍ أدت إلى عقدِ اتفاقٍ مع وجهاء المحافظة سهّلت دخول قوات الأمن والدفاع السوريين. غير أنَّ تراجُعَ الشيخ حكمت الهجري أوحى بوجودِ مزاجٍ جديد لدى دروز إسرائيل دفعَ باتجاه التصعيد ونقض الاتفاق.
ويُفيد بعضُ المعطيات إنَّ زعماء الطائفة الدرزية بقيادة الشيخ موفق طريف مارسوا ضغوطًا على نتنياهو للتدخّل بضرباتٍ موجعة، مُستنكرين ما وصفوه بالقصف الشكلي الذي شهدته المنطقة الثلاثاء (15 تموز/يوليو). وتتحدّث المعلومات عن أنَّ كبارَ الضباط الدروز في إسرائيل تدخّلوا ومارسوا ضغوطًا على قيادة الجيش الإسرائيلي، خصوصًا أنَّ الجيش يشكو تراجُعَ عديده إلى درجةِ العمل على تجنيد الحريديم المُتدينين، وأنَّ هناكَ خشيةً من امتناع الجنود الدروز من المشاركة في القتال في حال كان موقفُ إسرائيل ضعيفًا بشأن دروز السويداء.
ويُعتقد أنَّ هذه الضغوط تقف وراء الدوافع التي قال مصدر إسرائيلي إن الولايات المتحدة تفهّمتها وغضّت الطرفَ عن تصعيدٍ في الضربات طالت دمشق قبل أن تعود واشنطن لتضغط لوقفها.
وفي تفسيراتٍ أخرى فإنَّ المفاوضات التي جرت خلال الأسابيع الماضية بين سوريا وإسرائيل، لم تُسفِر عن تخلّي دمشق عن هضبة الجولان، ولم يَظهَر أيُّ استعدادٍ لديها لرفع التفاهمات المحتملة إلى مستوى التطبيع، الأمر الذي قد يدفع إسرائيل لانتهازِ المناسبة لتوجيه رسائل تَبَرُّمٍ نارية ضد الشرع وحكومته من خلال استهداف مناطق قريبة من القصر الرئاسي بما فيها وزارة الدفاع وقيادة الأركان.
وكانت إسرائيل تطوَّعَت حديثًا لعرضِ خدماتها لحماية الأقلّيات في المنطقة وفي سوريا. كان لافتًا أن يتبرّعَ وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، وفي كلمة ألقاها بمناسبة تسلّمه منصبه في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، ومن خارجِ أيِّ سياقٍ في حينه، بالدعوة إلى تعزير التحالف مع الأكراد والدروز في سوريا. كان ذلك قبل أن نسمعَ عن تحرّك “أبو محمد الجولاني” وقبل شهرٍ من دخوله دمشق مُعلنًا إسقاط نظامها السابق.
في 30 نيسان (أبريل) الماضي، وعلى خلفيةِ اندلاعِ مواجهاتٍ اندلعت في جرمانا وصحنايا ومناطق أخرى، أصدر نتنياهو، ووزير دفاعه يسرائيل كاتس بيانًا أعلنا فيه أنَّ الجيش الإسرائيلي “نفّذَ عمليةً تحذيرية (…) هدفها توجيه رسالة جدّية أيضًا للحُكمِ السوري، مفادها أنَّ إسرائيل تتوقّع منه التحرُّك لمنع إلحاق الأذى بالدروز”. وشدّدَ البيان على أنَّ “إسرائيل ملتزمة تجاه الطائفة الدرزية وحمايتها في سوريا”.
في اليوم نفسه قال كاتس: “نحنُ نُكرِّمُ اليوم إسهامات الطائفة الدرزية العظيمة في أمن إسرائيل، ونُخلّدُ ذكرى شهدائها الذين ضحّوا بأرواحهم دفاعًا عن الدولة. وهذا يزيد من التزامنا بحماية الدروز في إسرائيل وإخوانهم في سوريا”. في اليوم ذاته أيضًا، أكّد وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين أنَّ العلاقةَ بين دولة اسرائيل والطائفة الدرزية هي علاقةٌ عابرة للحدود، مُشيرًا إلى أنَّ إسرائيل لن تقفَ مكتوفةَ الأيدي أمام أيِّ محاولة للمساس بالطائفة”.
تؤكّدُ إسرائيل، وخصوصًا بعد “طوفان الأقصى”، على وظائفها العابرة للحدود. تصغي حكومة إسرائيل، رُغمَ “تمنّيات” البيت الأبيض بوقف الهجمات في سوريا، لضغوط اللوبي الدرزي في إسرائيل. كان الشيخ موفق طريف الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل قد قاد حملةً منذ أشهر تدعو إسرائيل للتدخُّل لحماية دروز سوريا. وتأخذُ إسرائيل مطالب ومواقف الطائفة بجدّية بالنظر إلى ما توفّره من انخراطٍ داخل الجيش الإسرائيلي. ولطالما تحرّك وليد جنبلاط في لبنان والمنطقة لثني دروز إسرائيل عن التطوّع في ذلك الجيش.
لكنَّ المسألة في إسرائيل لا تتعلّقُ فقط بضغوط الطائفة التي هي بالمناسبة عُذرًا وليست سببًا للتدخُّل العسكري. تبني إسرائيل موقفها بناءً على رؤيتها ووظيفتها وخطابها المدافع عن أقلّيات المنطقة، لكنها أيضًا ترسمُ دورها وشكل مكانتها المقبلة داخل مستقبل سوريا وما يُرسم لسوريا. فإذا كانت واشنطن ومبعوثها توم برّاك يوفّران الدعم الذي يبدو “غير مشروط” لنظام الرئيس أحمد الشرع، فإنَّ لتل أبيب حصّةً في ما يُرسَمُ في واشنطن ودمشق.
والحالُ أنَّ الغارات التي شنّتها إسرائيل “حتى الآن”، ورُغم نتائجها المميتة في صفوف القوات الحكومية السورية، لم تأخذ منعطفًا رادعًا شاملًا لردّ خطط حكومة دمشق عن السويداء. بدا أنَّ هناكَ تعايُشًا بين الأعمال العسكرية البرية التي تخوضها القوات السورية وتلك التي تُنفِّذها إسرائيل من سماء المحافظة جنوب سوريا. وبدا أيضًا أن هناك تماسًا تقبله واشنطن بين أجندة إسرائيل الداخلية والسورية من جهة والسقف الذي تضعه الولايات المتحدة للحراك الإسرائيلي من جهة أخرى.
تسعى إسرائيل لتقطيع هذه المرحلة على نحوٍ يستجيبُ لدروزها ويلاقي خطابها ويلبي أجنداتها ولا يُشكّلُ قطيعةً مع نظام دمشق. وجب الأخذ بالاعتبار أنَّ دعوات راجت داخل إسرائيل قبل أشهرٍ عدة دانت المواقف العدائية العسكرية التي اتخذتها حكومة نتنياهو ضد نظام الشرع، محذّرةً من تحوّل سوريا إلى جبهة عداء واسع. ووجب الانتباه إلى أنَّ عواصمَ في المنطقة والعالم ترعى مفاوضات جارية بين دمشق وتل أبيب قيل إن باكو عاصمة أذربيجان شهدت جانبًا منها على هامش زيارة الرئيس السوري الأخيرة إلى هناك. تأخد إسرائيل في الحسبان مستقبل علاقاتها مع سوريا ما يفرض حسابات دقيقة تتجاوز خطابها الشعبوي الحنون الساهر على أمن الإقليات.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).