سلامُ نتنياهو الوَهمي
عمران خالد*
وَقفُ إطلاقِ النار. مجرّد سماع هذه العبارة يجعل الأنفاس تَحبُسُ أملًا، ثم تَزفُرُ تعبًا. بالنسبة إلى سكان غزة المُنهَكين والمُحاصَرين، فإنَّ آخر همسات الهدنة، التي سُمعت أولًا في عرض عشاء نتنياهو وترامب في واشنطن، تحملُ التناقض ذاته الذي تحمله دومًا: بارقة أمل بعيدة، يلفّها ظلُّ الخيانة المألوف.
نظريًا، يجب أن يُمثّلَ وقفُ إطلاق النار بدايةً للهدوء. لكن في مسرح السياسة الإسرائيلية ال”أورويلي” تحت حكم بنيامين نتنياهو، كثيرًا ما يكون وقف إطلاق النار مجرّد إشارةٍ لبداية الخداع التالي. رئيس وزراء إسرائيل يعود مرة أخرى إلى المسرح العالمي مُحاطًا بكلمات السلام المُنمَّقة، إلى جانبه دونالد ترامب، رجلٌ لا يُفرّقُ بين الديبلوماسية والترويج الذاتي. مشهدٌ كهذا يجب ألّا يُستَقبَلُ بالاحتفال بل بالتدقيق.
المشهدُ مُعَدٌّ بعناية. نتنياهو، الجريح سياسيًا والمُحاصَر قانونيًا، يسعى إلى الحصول على بعض الراحة من تصاعُد الاحتجاجات ومحاكم الفساد في بلاده. أما ترامب، الذي لم يصادف كاميرا لم يُغازلها، فيسعى إلى إعادة تقديم نفسه كوسيط سلام، ليس على طريقة “اتفاقات أبراهام”، بل كمخلّصٍ لمنطقة لا يفهمها إلّا من عناوين الأخبار.
لكن إذا نزعنا الشعارات والمنصّات المغطّاة بالأعلام، يتبقّى خداعٌ قاسٍ. غزة في حالة دمار، مقبرةٌ إنسانية تبرزُ منها ألعابُ الأطفال من تحت الأنقاض. الغذاء، الماء، الكهرباء –أساسيات الحياة– كلها مقنّنة بفعلِ الحصار. في مثل هذا المشهد، الحديثُ عن “السلام” من دون معالجة البنية العنيفة التي تُديمُ الوَضعَ القائم ليس ديبلوماسية، بل مسرحية.
التاريخ لا يخلو من الدروس التحذيرية. إنَّ سِجِلَّ نتنياهو مليءٌ بوقف إطلاق النار الذي ينتهَكه ليس من طريق الخطَإِ، بل عن عمد. الاتفاقاتُ، التي غالبًا ما تُبرَمُ عبر وسطاء كقطر أو مصر، تُلقى جانبًا بمجرّد أن تنتهي فائدتها – أو عندما تتطلّبُ السياسة الداخلية عرضًا جديدًا للقوة العسكرية. بناءُ المُستوطنات مُستمرٌّ بلا توقُّف. الحصارُ مُستمر. التوغّلات العسكرية تتجدّد تحت ذريعة “الأمن”. وخلال كل ذلك، أتقنت الدولة الإسرائيلية، بقيادة نتنياهو، فنَّ تمثيلِ دور الجاني والمُنقِذ في آنٍ واحد.
الفلسطينيون ليسوا سُذَّجًا. إنهم لا يرفضون السلام؛ بل يرفضون التمثيليات. إنهم لا يطالبون فقط بوقف القصف، بل بالاعتراف بحقوقهم – في الأرض، والحرية، وتقرير المصير. وقفُ إطلاق النار الذي لا يرفع الحصار، ولا يوفّرُ آليةَ رقابةٍ دولية، ولا يُحاسِبُ إسرائيل على الانتهاكات، ليس سلامًا. بل هو استراحة بين حربَين.
ومع ذلك، حتى هذه المسرحية تطغى عليها خطة نتنياهو الأعمق: تفتيتُ الهوية الوطنية الفلسطينية نفسها. من أكثر المقترحات غرابةً الصادرة عن حكومته –أو على الأقل من دوائر داعميه– فكرة “الإمارات” داخل الضفة الغربية. “إمارةُ الخليل”، التي يُزعَمُ أنها طُرِحَت من قبل زعيم عشيرة يسعى إلى الاعترافِ الإسرائيلي مقابل الطاعة، تُعيدنا إلى أساليب الاستعمار القديمة في التفريق والسيطرة.
وهذه ليست فكرة جديدة. في السبعينيات والثمانينيات، حاولت إسرائيل عبر مشروع “روابط القرى” تجاوز منظمة التحرير الفلسطينية بدعمِ شخصياتٍ محلية مطواعة. وقد فشل هذا المشروع فشلًا ذريعًا، لأنه أساء فهم جوهر الهوية الفلسطينية: مقاومة الاحتلال الجماعية، ورفض المقايضة على الكرامة مقابل البقاء.
إنَّ طرحَ فكرة “الإمارات” الآن، في وقتٍ تُظهِرُ الوحدة الفلسطينية تحدّيًا غير مسبوق وتبلغ فيه المشاعر القومية ذروتها، هو إما خطأٌ فادح أو استفزازٌ مُتعمَّد. في كلتا الحالتين، يكشف هذا عن إفلاسِ استراتيجية نتنياهو. بعد فشل إسرائيل في هزيمة “حماس” عسكريًا خلال ما يقارب عامين من القصف العنيف على غزة، انتقلت الآن إلى حربٍ من نوعٍ آخر: الاحتواء، التفتيت، وصناعة قياداتٍ مصطنعة.
وتتكرر القصة بصُوَرٍ مُشَوَّهة. في غزة، عصابة إجرامية يقودها ياسر أبو شاب –رجلٌ لا يمتلك شرعيةً ولا حيثية ولا دعمًا شعبيًا- يُزعَمُ أنه يتلقّى دعمًا إسرائيليًا. رجاله، المتهمون بسرقة المساعدات وبثّ الفوضى، لا يُمثّلون بديلًا للحكم. لكن حكومة نتنياهو لا تسعى إلى الحكم، بل إلى السيطرة – ويُفَضَّلُ أن تكون عبر عملاء، ومن دون أيِّ تنازلات.
وهذا جُزءٌ من نمطٍ طويل الأمد. من استمالة شخصيات موالية للأردن في بدايات الاحتلال، إلى تمكين الإسلاميين المعادين لمنظمة التحرير العلمانية في الثمانينيات –بما في ذلك التمكين غير المباشر ل”حماس”– ظلَّ هدفُ إسرائيل ثابتًا: تقويض الوحدة الفلسطينية، نزع شرعية القيادة الوطنية، وتفتيت المطالبة بالدولة.
النهجُ الحالي لنتنياهو هو فقط أكثر تكرارًا ووقاحة لهذا الإرث. شركاؤه في الائتلاف –بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير– لم يخفوا رغبتهم في محو الهوية الوطنية الفلسطينية بالكامل. سموتريتش، في خطابه الشهير في باريس، وصفَ فلسطين بأنها “اختراع”. أفعالهم، من تقويض السلطة الفلسطينية إلى الهجوم على الأونروا، تعكس عقلية الأرض المحروقة – ليس فقط في الميدان، بل في التاريخ والسردية.
حتى السلطة الفلسطينية، التي تُنتَقد غالبًا لضعفها وتواطؤها في “التنسيق الأمني”، ذات نزعة وطنية مبالغ فيها بالنسبة إلى نتنياهو. ويُعتبر احتمال أن تُحيي عودتها إلى غزة الحديث عن قيام دولة أمرًا مرفوضًا لدى اليمين الإسرائيلي. وبالتالي، تُهمّش السلطة الفلسطينية، حتى مع استغلال ضعفها لتبرير هذا التهميش.
وفي الوقت ذاته، يواصل ما يسمى بالمجتمع الدولي أداء دوره المألوف كمراقب ومُمكِّن. الولايات المتحدة، كعادتها، تُغلّفُ الإفلاتَ الإسرائيلي من العقاب بلغة “القيم المشتركة”. وأوروبا، المُتردّدة بسبب المخاوف الداخلية والعجز الديبلوماسي، تتأرجح بين التصريحات الفارغة والشلل. أما العالم العربي، الذي أقامت بعض دوله أخيرًا اتفاقيات تطبيع مع الدولة العبرية، فيصدرُ بيانات كما لو أنه غير معني بالنار التي ساهم في إشعالها.
في النهاية، يُترك المدنيون في غزة –لا السياسيون، ولا الجنرالات– ليدفعوا الثمن. يدفنون موتاهم في صمت، يُقسِّمون الطعام في الظلام، ويعلّمون أبناءهم الأمل بين الركام.
فما الذي يجب أن نتوقّعهُ من وقف إطلاق النار الجديد هذا؟ إذا تمَّ توقيعه فعلًا، قد يوقف القنابل مؤقتًا. قد يسمح بمرور بعض شاحنات المساعدات. قد يغيّر العناوين الرئيسة لبعض الوقت. ولكن ما لم يُعالِج الأسباب الجذرية –الاحتلال، الحصار، التهميش– فلن يكون سوى إعادة ضبط مؤقتة للعدِّ التنازلي نحو الانفجار الآتي.
يستحق أهل غزة أكثر من وَهمٍ تفاوضي جديد. يستحقون المحاسبة. يستحقّون الحرية. ويستحقّون، على الأقل، نهايةً لإهانة أن يتحدث باسمهم دُمى ويُعاقَبوا باسم “الأمن”.
قد يكسبُ نتنياهو دورة أخبار جديدة. وقد يتباهى ترامب بـ”صفقة” أخرى. لكنَّ التاريخَ لن يُخدَع. والشعب الفلسطيني، الممزَّق بالحدود لكن الموحّد في النضال، لا ينتظرُ الخلاص من فوق. إنه يطالب به من الأرض.
وما لم يُجَب هذا المطلب بالعدالة لا بالدبابات، فلن يصمدَ أيُّ وقفٍ لإطلاق النار. ولن تُخفي أيُّ كذبة –مهما كانت مُصاغة ببلاغة– الحقيقة: أن طريق السلام لا يمرُّ عبر “إمارات” الخليل أو عصابات إجرامية، بل عبر الاعتراف بفلسطين كأمة، مجروحة نعم، لكنها غير مكسورة.
- عمران خالد هو محلّل جيوسياسي وكاتب في الشؤون الدولية، مقيم في كراتشي، باكستان.