كي تظلَّ بيننا طُيُور أَيلول
هنري زغيب*
في 29 أَيلول/سبتمبر 2015، دعتْني إِملي نصرالله إِلى المكتبة الشرقية، لحضور تسليمها الدُفعةَ الأُولى من أَرشيفها الْكان يومها مجموعة من بعض المقالات والمخطوطات والمراسلات والمنبريات، وما صدر من نُصوص عن بعض مؤَلَّفاتها. وفيما نغادر الاحتفال، سألْتُها عن حجم ما قدَّمت نهارئذٍ، مقابلَ ما يبقى، فتوقَّفت متنهِّدةً لتجيب أَنَّ الحجم لن يبلُغَه إِحصاء حتى تنتهي من ترتيبِه وتبويبِه وفهرستِه.
يومَها لم نكُن نعلَم، ولا هي، أَنَّ القدَر القاسي سيحرُمُنا منها بعد ثلاث سنوات (13 آذار/مارس 2018) قبل أَن تُنجِزَ الْــ”ما لن يبْلُغَه إِحصاء”. سوى أَنَّ ابنتَها مها، خلال العشر السنوات اللاحقة، نذرَتْ أَلَّا تترُكَ الإِرث بدون إِحصاء، فانصرفت إِليه مكرِّسَةً له الساعات العديدة في الأَيام المديدة، وفرِغَتْ منه، أَو من معظَمِه، وبادرَتْ مساءَ الإِثنين الماضي، بحضور شقيقَتِها منى وشقيقَيْها رمزي وخليل، إِلى توقيع عقد مع رئيس الجامعة اليسوعية البروفسور سليم دكاش، يقضي باستلام المكتبة الشرقية حصيلةَ عشْرِ سنوات من عمَل مها نصرالله، وهي: مجموعةُ مراسلاتٍ خاصة وعامة، مخطوطاتٌ منشورة وغيرِ منشورة، مقالاتٌ صحافيّة، مكتبتُها الشخصية، مجموعةٌ غنيةٌ من الصور الفوتوغرافيَّة، وشهاداتٌ كثيرةٌ عن مسيرتها الأَدبيّة الساطعة.
هذا الحدَثُ الأَدبيُّ الكبير، جاء هديةً بعد غيابِ الكاتبة التي أَثْرَتْ الأَدب اللبناني بهداياها المتأَلِّقة، رواياتٍ وقصصًا ودراساتٍ وأَدبًا للناشئة، حتى تكتملَ أَحلامُها التي جعلَتْ من الكفَير عاصمة “طيور أَيلول”، ويتحوَّلَ “بيت طيور أَيلول” مركزًا ثقافيًا تحقَّق بعد حفنة أَشهُر من غيابها، ما ضَمِنَ أَن تظلَّ بيننا “طُيُور أَيلول”.
أَولًا: التهنئة للغالية إِملي على دخول أَرشيفها حرَمًا مكرَّسَ العراقة والتاريخ، في المكتبة الشرقية التي تحتضنُها مؤَسسةٌ عُليا هي جامعةُ القديس يوسف، المحتفلةُ هذا العام بالذكرى 150 لتأْسيسها في بيروت سنة 1875.
ثانيًا: التهنئة أَيضًا لإملي على ما تُهَيِّئُ لأَرشيفها الجامعةُ اليسوعية من حضانةٍ إِيجابيةٍ مفتوحةٍ غدًا للدارسين والباحثين والأَكاديميين.
ثالثًا: طوبى لِمَن، من أَهل الآداب والفنون، يحظى باحتضانِ مؤَسسةٍ أَكاديميةٍ أَو ثقافيةٍ تراثَهُ المنشورَ والمخطوطَ والمحفوظ، لأَنه بذلك يَضمَنُ حياتَه المديدةَ بعد غيابه، إِثْر حياته المحدودةِ العمْر على الأَرض قبل الغياب. ولذا أَقول دومًا وأُكرِّرُ في خُطَبي ومحاضراتي عن علَمٍ غابَ وتراثُهُ محتَضَن: “أَطال اللهُ عُمر غيابه”، لأَنني مدركٌ أَنَّ احتضانَ إِرثه بعد غيابِهِ حياةٌ ثانيةٌ له لن يَحُدَّها عمْرٌ ولا مَوت.
رابعًا: منذ توليتُ إِنشاءَ “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU، قبل 23 سنة (2002)، وأَنا أُنظِّم ندواتٍ شهريةً، ومؤْتمراتٍ موسميةً، وأَنشُر مؤَلَّفاتٍ وأُعيد نشْر أُخرى، وأُصدرُ مجلةَ “مرايا التراث” المحكَّمة، وما سوى ذلك من تحرُّكٍ نهضوي، ما إِلَّا لإِبقاء أَعلامنا وأَعمالهم في البال. غير أَنَّ ذلك لا يكفي، وسعْيي هو تحويلُ “المركز” مساحةَ أَبحاثٍ عن التراث، وإِلى جعله مأْمَنًا لكبارنا المبدعين، يَحفظ إِرثهم ويُحافظ عليه ويُحفِّز المعنيين بمقاربته ودراسته، كي يتحوَّلَ الإِرث نجمًا تتكوكب حوله الدراساتُ والكتُبُ والتآليفُ، حتى يغدو عُمْر المبدعِ المعنيِّ في “المركز” حياةً له فيَطولَ عُمْرُ غيابه شروقًا لا إِلى غروب.
حياةُ الأَوطان لا تقوم على ذكرى سياسييها العاديين، بل على تراث مبْدعيها فنونًا وآدابًا، هو الذي يستقطب التاريخ كي يؤَرِّخَ لهم الخلود: متحف فان غوخ يستقطب إِلى أَمستردام سنويًا ملايينَ الزوار والسيَّاح، وليس بينهم مَن يسأَلُ عمَّن كان وزيرًا أَيام فان غوخ، أَو حاكمًا أَو زعيمًا سياسيًّا. وبيوت فيكتور هوغو، في باريس و هوتفيل غيرنسي وبيزانسون، محجٌّ سنويٌّ لآلاف الزوار، وليس بينهم من يسأَل عمَّن كانوا في الحكْم أَيام فيكتور هوغو. فَلْيفْهمِ الحكَّام عندنا أَنْ لا قيامةَ لهم بعد غيابهم إِلَّا إِذا بادروا إِلى رعاية المبدعين اللبنانيين، أَحيائهم والغائبين، لعلَّ زائرًا يسأَلُ ذاتَ يوم عمَّن كان وراءَ رعاية هذا المبدِع في بيته، أَو إِرثِهِ، أَو إِنشاء مُتحفه.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib