حَلُّ الدولتَين بين الواقِعِ المَفروض وأوهامِ السلامِ المُؤجَّل
الدكتور داوود البلوشي*
عادَ مُصطَلَحُ حلِّ الدولتَين إلى الواجهة في زمنٍ تتقاطعُ فيه الاعترافات الدولية مع الضغوط الإنسانية والتحوّلات الجيوسياسية العميقة. يتناول هذا المقال رؤيةً شاملة تجمعُ بين الماضي والحاضر، فتستعرض الخلفية التاريخية لقيام إسرائيل ودور بريطانيا في ذلك، كما تُضيءُ على البُعدِ الديني والسياسي الذي مَهّدَ لظهور الفكرة، ثم تنتقل لتحليل مواقف القوى الدولية والإقليمية المختلفة، مع التوقُّف عند هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وتأثيراته على مستقبل المنطقة.
عندَ النظرِ إلى جذورِ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لا يُمكن اختزاله في العام 1948 فقط، بل هو مُمتَدٌّ لقرونٍ سابقة حين اختلطَ الدين بالسياسة في أوروبا الغربية. ففي العصور الوسطى، اعتُبِرَ اليهود جماعةً منبوذة في الموقف الكاثوليكي، لكن مع الإصلاح الديني الذي قاده مارتن لوثر في القرن السادس عشر، أعاد البروتستانت إدماجَ اليهود في الرواية المسيانية، ومنحوهم بُعدًا مُقدَّسًا جديدًا في الفكر الغربي، خصوصًا في إنكلترا البروتستانتية.
بعد الحرب العالمية الأولى، حصلت بريطانيا على الانتداب على فلسطين وأصدرت وعد بلفور في العام 1917، الذي نصَّ على إقامةِ وطنٍ قومي لليهود. كان ذلك الوعد تتويجًا لعقودٍ من الفكر البروتستانتي والسياسة الإمبريالية. وخلال فترة الانتداب بين 1920 و1948، سهّلت بريطانيا الهجرة اليهودية وقمعت المقاومة الفلسطينية، وعند انسحابها في العام 1948 أُعلِنَ قيام إسرائيل من دون ترسيمٍ واضحٍ لحدودها. وهكذا أصبحت الدولة الوحيدة في الأمم المتحدة التي لا تملك حدودًا رسمية، وهو وضعٌ غير مسبوق أتاح لها التوسع المستمر.
غيابُ الحدود هذا جعلَ أيَّ حديثٍ عن دولةٍ فلسطينية مستقلة فارغًا من مضمونه، ما يعني أنَّ الخطوة الأولى لأيِّ حلٍّ حقيقي تكمن في إلزام إسرائيل بترسيم حدودها النهائية داخل الأمم المتحدة ليصبح لحلّ الدولتين إطارٌ قانوني يُمكِنُ البناءُ عليه.
وفي سياقِ إحياءِ هذا المسار، لعبت فرنسا والمملكة العربية السعودية دورًا بارزًا عبر مبادراتٍ ديبلوماسية ومؤتمرات، لكنهما واجهتا عقبات صلبة، أبرزها استمرار الاستيطان والانقسام الفلسطيني الداخلي. وعلى الضفة الأخرى، تقف إيران رافضةً أيّ تسوية تمنح إسرائيل شرعية كاملة، وتُواصلُ دعمها لفصائل تتبع لها في المنطقة ك”حماس” و”حزب الله” باعتبار ذلك جُزءًا من استراتيجيتها لمواجهة إسرائيل وزيادة كلفة الاحتلال. وترى طهران أنَّ أيَّ حلّ لا بُدَّ أن يشملَ القدس وحق العودة وضمانات سيادية مكتملة للفلسطينيين.
أما الولايات المتحدة، فتقومُ سياستها على ثلاث ركائز: حماية إسرائيل باعتبارها حليفًا استراتيجيًا لضمان مصالحها في المنطقة، والإبقاء على إيران كعدو دائم يزرع حالة قلق أمني مستمرة في الخليج، ودفع مشروع الممر التجاري “IMEC” الذي يربط الهند بالخليج وإسرائيل وأوروبا كأداةٍ لمواجهة مبادرة الحزام والطريق ونفوذ الصين.
إسرائيل بدورها تسعى إلى ترسيخ هيمنتها عسكريًا واقتصاديًا عبر تحييد الجيوش العربية ومنع أي قوة إقليمية من تهديدها، والسيطرة على مفاصل التجارة مثل ميناء حيفا، وفرض نزع سلاح المقاومة بما يعني إنهاء إرادة القتال الفلسطينية وتحويلها إلى طرف سياسي منزوع القوة.
وفي المشهد العربي، اتجهَ بعضُ دول الخليج إلى اعتبار إسرائيل شريكًا لمواجهة إيران، غير أنَّ الضربة الإسرائيلية الأخيرة على قطر أظهرت أنَّ الخطر الإسرائيلي يمكن أن يمتدَّ ليُهدّد أمن هذه الدول ذاتها، وهو ما دفع بعض الحكومات إلى إعادة تقييم تحالفاتها واستراتيجياتها الدفاعية. وعلى الجانب الأوروبي، بدأت دولٌ مثل فرنسا تدرك أنَّ الدعمَ غير المشروط لإسرائيل يضعف مصداقيتها كمدافعة عن حقوق الإنسان. ولهذا اعترفَ بعضُ الدول بدولة فلسطين استجابة لضغط شعبي داخلي، لكن من دون خطة عملية لتنفيذ حلٍّ ملموس على الأرض.
هجومُ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الذي شنّته حركة “حماس” شكّلَ نقطةَ تحوّلٍ كبرى؛ فقد اخترقت الحركة الحدود ووصلت إلى مستوطناتٍ داخلية إسرائيلية، ما كشف ضعفًا أمنيًا واستخباراتيًا غير مسبوق، وطرح أسئلة حول جاهزية إسرائيل. كما أثار جدلًا حول احتمال استغلال الحكومة الإسرائيلية للحدث كذريعةٍ لإشعال حربٍ واسعة تهدف إلى القضاء على “حماس” و”حزب الله”، وتهيئة الأجواء لتمرير مشروع الممر التجاري الجديد. لكن في العمق، بدا أنَّ إسرائيل فقدت شعورها بالأمان، وأنَّ سياساتها القائمة على التدمير الممنهج ليست فقط بهدف القضاء على قدرات المقاومة، بل أيضًا على قدرتها على الاستمرار. ولهذا تطالب إسرائيل بنزع سلاح “حماس” مقابل وقف الحرب، وهو ما يُترجَم عمليًا إلى استسلامٍ كامل يضع حدًا للقتال. كما إنَّ الاعتراف بدولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة زادَ من حالة القلق الداخلي في إسرائيل وأثار مخاوف حول مستقبلها وبقائها.
في المحصلة، لا يمكن أن يكونَ حلُّ الدولتين حلًا واقعيًا ما لم تُرسَم حدود إسرائيل بوضوح، ويُوقف الاستيطان، وتتحقق وحدة فلسطينية داخلية تعيد للفلسطينيين القدرة على تمثيل قضيتهم بفاعلية. فبدون هذه الشروط، سيبقى حلّ الدولتين مجرّدَ شعارٍ سياسي يُستخدم لإدارة الصراع بدلًا من إنهائه.
- الدكتور داوود البلوشي هو محام ومستشار قانوني عُماني. حاصل على الدكتوراه في القانون من جامعةالسوربون في باريس. وهو أستاذ محاضر في جامعة السلطان قابوس في مسقط.