هنري بوردو: لبنان قبل 100 عام
هنري زغيب*
لا يزال الدكتور هيام ملَّاط مجنِّدًا وقتَه وطموحَه وإِيمانَه الوطني لكشْف صورة لبنان في عيون الأَجانب، وفي طليعتهم “الخالدون الأَربعون”. وكتابُه عنهم، الصادر أَخيرًا بطبعة جديدة “الأَكاديميا الفْرنسية ولبنان” حمَلَ وسْمَ “الخالدين” على جبين لبنان. وها هو يُكمل بهم. تناول أَحدَ كبارهم: الكاتب هنري بوردو (1870-1963)، اقتطف من سيرته ما يتعلَّق بلبنان، وأَصدرَه هذا الأُسبوع في كُتيِّب”هنري بوردو ولبنان” (بالفرنسية، منشورات “أَلِفْ”، بيروت- 64 صفحة) مكتنِزًا من بوردو حضورًا لبنانيًا قبل 100 سنة.
سبعةُ دوافعَ للكاتب والكتيِّب:
- زيارةُ بوردو لبنانَ سنة 1922 ترافقه ابنتُهُ پولا، ووضْعُها كتاب “ساحرة الصحراء” عن الليدي إِستِر سْتنهوب (قصْرُها في بلدة جُون قرب صيدا، جنوب لبنان).
- حضورُهُ وضْعَ حجر الأَساس لبناء مستشفى “أُوتيل ديو” في بيروت (23 أَيار/مايو 1923).
- صدورُ روايته “جميلة في ظلال الأَرز” (باريس 1923) ورواجُها السريع.
- مقالُه الشهير “أَنقِذُوا بعلبك” الصادر في مجلة “الإِلُّوستراسيون” (عدد 15 أَيلول/سبتمبر 1928).
- صدورُ كتابه “رحَّالة إِلى الشرق” (جزءَان في 260 صفحة-باريس 1928) وفيه نبذة عن رحالة زاروا لبنان وكتبُوا عنه.
- مراسلةٌ شخصيةٌ عامَي 1962 و1963 بين هيام ملَّاط (كان في السابعة عشرة تلميذًا في صف الفلسفة)، والكاتب هنري بوردو (وكان في الثانية والتسعين).
- إِعجابُ ملَّاط بخطاب بوردو يوم تسَلُّمه مَقعَده في “الأَكاديميا الفرنسية” (22 أَيار/مايو 1919).
بـهذه الأَعلاه جميعها، يتدرَّجَ الكتيِّب مع أُولى رسائل التلميذ ملَّاط إِلى بوردو (24 تشرين الأَول/أكتوبر 1962)، فجواب بوردو (7 تشرين الثاني/نوفمبر 1962) وفيه نصائح إِلى اللبناني الشاب: “مهنة الأَدب لا يُدخَل إِليها. إِذا الكاتبُ موهوبٌ، يَنجح في سُطُوع اسمه، إِمَّا إِلى الخلود أَو أَقلَّه إِلى الشهرة”. وتتواصل المراسلة بينهما حتى الأَحد 25 آذار/مارس 1963 حين بدأَ التلميذ هيام يخطُّ رسالة إِلى الكاتب الكبير، ولم يكْمِلْها على أَن يُنهيها لاحقًا. سوى أَن هذا الـ”لاحقًا” خذَلَه: صباح السبت 30 آذار/مارس فتح الجريدة لترتطم عيناه بخبر وفاة هنري بوردو مساءَ الجمعة 29 آذار/مارس، فحوَّل رسالتَه إِليه مقالًا عنه نشَرَتْهُ جريدة “الأُوريان” بعد أَيام.
في الفصل الثاني من الكتيِّب مواقفُ بوردو في البلد الطالع حديثًا “دولة لبنان الكبير”،. منها رؤْيتُه بيروتَ “دائرةً من نور”، ومنها إِذ كان في زيارة صور وصيدا، وصَلَتْهُ برقيةٌ عاجلة من الجنرال غورو أَن يعود فورًا إِلى بيروت ليُشاركَه وضْعَ حجر الأَساس لبناء مستشفى أُوتيل ديو. يومها أَلقى بوردو كلمةً، منها: “ماذا أَقول في لبنان أَكثر من أَنه، منذ نشيد الأَناشيد، رمزُ الجمال الناصع”. وفي كتابه عن رحَّالة الشرق، روى بوردو زياراتِهِ الأَرزَ وبعلبك وبيت الدين ودير القمر وجونيه وعينطورة وريفون وحمانا، و”عمشيت وغزير وجبيل، إِحدى أَجمل بقاع العالم”. وفي فصل خاص من الكُتيِّب، يقتطف ملَّاط مقاطع يروي فيها بوردو كيف نسَجَ روايته “جميلة في ظلال الأَرز” من قصة الصبيَّة المسيحية “جميلة” وحبيبها المسْلم “عُمَر”، بُعَيْدَ أَحداث 1860 ونُدُوبها الطائفية.
ممتعةٌ جدًّا هذه الرحلة في كتيِّب هيام ملاط. تعطي، وإِن وميضةً، ضوءًا على أَديب كبير زار لبنان وذاقَ حضارته، فنَشَرَها في كتاباته شهادةً على وطنٍ غيرِ عاديٍّ، في شرقٍ ما زال لبنانُ لؤْلؤَته الفريدة.
وحبَّذا لو ينصرف كتَّابنا هكذا إِلى نسْج كتُبٍ شبيهةٍ كي يعرفَ جيلُ اليوم أَيَّ وطنٍ مَنَحَتْهُم الحياةُ نعمةَ أَن يكونوا أَبناءَه.
شكرًا… شكرًا هيام ملَّاط.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).