اعترافات بيتهوفن (5 من 8)

أنطونيا بْرنْتانو: اعتبرها “الحبيبة الخالدة”

هنري زغيب*

إِنه نصٌّ فرنسيٌّ للكاتب اللبناني الفرنكوفوني المحامي اسكندر نجَّار، كان صدر كتابًا في بيروت لدى منشورات L’Orient des livres. تمَّ إِطلاقُهُ ضمن “مهرجان البستان 2020” في الاحتفاليةٍ الخاصة: “أُمسيات باريس”، على “مسرح إِميل البستاني” مساءَ الأَربعاء 26 شباط/فبراير 2020 بأَداء الممثِّل الفرنسي جان فرنسوا بالمير Balmer قراءةً النص، وعبدالرحمن الباشا عزفًا على الـﭙـيانو.

ومساء التاسع من آب/أغسطس 2022، تَمَّ إطلاقُ النص بالعربية على مسرح “مونو” – الأَشرفية، بأَداء الممثل بديع أَبو شقرا قراءةً النص، والفرنسي نيكولا شوڤرو Chevereau عزفًا على البيانو. وصدرَ النص العربي كتابًا لدى “منشورات سائر المشرق”.

سأَقتطف من تلك “الاعترافات” مقاطعَ موجزةً على 8 حلقات مختَصَرة.

هنا الحلقة الخامسة.

فشلي مع نساء (الجزء 2 من 2)

بعد تريز برونشفيك وشقيقتها جوزفين، غازلتُ جولـيــيــتَّــا جوكياردي (نمساوية (1782-1856) درسَت الـﭙـيانو على بيتهوﭬـن سنة 1801. أَحبَّها ووضَع لها “سوناتا الـﭙـيانو رقم 14″ التي اشتهرَت لاحقًا بـ”سوناتا ضوء القمر”). لم تتجاوب معه، وتزوَّجَت سنة 1803 من البارون روبرت ﭬـون غالِنْبُرغ). وهي كونتيسة صبية، ملَكية الـمِشية، زرقاويةُ العينَين، كنتُ أُلقِّنُها العزف على الـﭙـيانو. صدَّقتُ تلك العلاقة لإِعجاب جولييتّا بـي. كانت ترسُمني، وأَهدتْني يومًا رسمًا لها ما زلتُ أَحتفظ به. سحرَتْني أُنوثتُها فأَهديتُها سوناتا “الفانتازيا”. لكنَّ فارق الطبقة الاجتماعية بيننا، واختبارَها مزاجيَ الغَضوبَ الذي كان يدفعني إِلى تمزيق أَو دَوْس مخطوطاتي حين لا تُـحْسِنُ عزفَها، جعلاها تُشيح عني، وتتزوَّج من الكونت غالِـنْـبُرغ، بعدما تجرَّأَتْ أَن تستدين مني خمسمئة فلورينة كي تعطيها ذاك التعِسَ التافهَ لـحاجته إِليها.

آنّا ماريَّا إردودي: استضافته في قصرها ولم تحبَّه

الكونتيسة إِردودي

وعرفتُ أَيضًا الكونتيسَّة آنَّا ماريَّا إِردُودي (نبيلةٌ هنغارية (1779-1837). تزوَّجَت سنة 1796 من الكونت ﭘـيتر ﭬـون إِردودي. أَنجبت له ثلاثة أَولاد. انفصلَت عنه سنة 1805. عاشرَت من دون زواجٍ مدرِّس أَولادها فرانز كزافير بروخْل. اِستضافَت بيتهوﭬـن في قصرها سنتَي 1808 و1809 في ﭬـيينا. أَهداها ثُلاثيَّتَين للـﭙـيانو، ومقطوعَتَين للتْشِلُّو). وهي عازفةً ممتازة ، تركَها زوجها باكرًا، وأَصابتْها إِعاقةٌ دائمة استقرَّت بعدها في كْرُوَاتيا حيث تعلَّقَت مدرِّبَها على ركوب الخيل، وكان غريب الشخصية أَوقعها في إِدمان الأَفيون.

بعدها كانت إِليونور ﭬـون بْرونِنْغْ، ولقبُها “لورْشِنْ” (قد تكون أَول امراة أَحبَّها بيتهوﭬـن. وهي (1771-1841) من أُسرة ٍكانت تحنو عليه وتساعده. أَهداها سُوناتا للـﭙـيانو رقم 51. غادرَت بُونّ سنة 1792. تزوَّجَت سنة 1802 من صديق طفولته فرانز غيرهارد ويغلر). غافلتني، كما في مسرحيةٍ هزلية، وارتمَت في حضن صديقيَ الأَقرب وِغْلِر (طبيبٌ أَلـمانـيٌّ شهير، صديق بيتهوﭬـن منذ الطفولة).

الشقيقتان بْرنْتانو

ثم كانت الشقيقتان أَنطونيا وبيتّينا برنْتانُو. (أنطونيا مُـحسنةٌ أَلـمانية وداعمةُ فنون (1780-1869). في التداوُل أَن رسالة بيتهوﭬـن “إِلى الحبيبة الـخالدة” كتبَها لها. وهو أَهداها متتاليات “تنويعات للـﭙـيانو” وضَعها بين 1819 و1823). وبيتّينا (روائية أَلـمانية (1785-1859). كانت صديقةً لبيتهوﭬـن. تزوَّجَت سنة 1811 من الشاعر الرومنطيقي آكيم ﭬـون آرنيم وأَنجبَت له سبعة أَولاد. توفي سنة 1831، وأَبقَت على علاقتها بالشاعر غوته ونشرَت سنة 1835 كتاب “رسائل بين غوته وصبيَّة” هي التي تبادلاهُـما طيلة سنوات).

كثيرات… ولا واحدة

عرفتُ غيرهنَّ، وكُنَّ جميلاتٍ ساحراتٍ لا تُـحصيهِنَّ ذاكرتي. طالـما توغّلْتُ بعيدًا في اعترافاتي، وأُقِرُّ بأَنني، في 6 تـموز/يوليو 1812، كتبتُ رسالةً لاهبةً صريحةً، أُوردُ منها هنا مقطعًا مع اعتذاري على غنائيّتي الزائدة فيها:

“حبيبتي الخالدة، منذ أَفتحُ عينيَّ في سريري تتهافتُ أَفكاري إِليكِ. تبدأُ مزقزِقةً فرَحًا ثم تنحسرُ حزنًا. أَرجو القَدَر أَن يكون رحيمًا بنا. لم أَعُد يمكنني أَن أَعيشَ إِلَّا معكِ باستمرارٍ أَو أنني لا أَعيش. حبُّكِ جعلَني أَسعدَ إِنسان وأَتعس إِنسان”.

هذه الرسالة، كأَنما يكتبُها مراهقٌ متردِّدٌ راجفٌ، لم أَجرؤْ على إِرسالـها إِلى “حبيبتي الخالدة”. ولا بدَّ أَنها ستُثير استغراب مَن سيجدُها بين أَوراقي بعد موتي. سيتساءَل حتمًا لِـمَن كتبْتُها، وسوف يَغرق في التخمينات، وسيُجْري استقصاءات بلا جدوى، أَسخَر منها منذ الآن، لأَنه لن يعرف أَنني كتبتُها لِـمُوحِياتٍ كثيراتٍ أَلْـهَمْنَني ونساءٍ فشلتُ في حبِّهِنَّ.

حياة فاسقة

اليوم، بعد إِخفاقي وخيباتي في علاقاتٍ فاشلة، أُعلنُ أَنني شُفيتُ من آخر أَوهامي. فكما استقلْتُ من صحَّتي، كذلك استقَلْتُ من الحبّ. رحتُ أَتردَّد على الحانات، وأُعاشر بناتِ الهوى، تلك “العَمارات الـخَرِبة” اللواتي أَعرفُ أَنهنَّ لن يُعلِّلْنَني بآمالٍ كاذبة، ولن أَقع في حبِّهنّ. فأَنا موقنٌ أَنْ “من دون اتـّحاد الأَرواح، تبقى حيوانيةً نشوةُ الـحواسّ، ولا تترك لنا أَيَّ شعورٍ بالطبيعة السامية. بل لا تتركُ فينا سوى الندم”. أَشْـمئزُّ مني على انزلاقي بلا رادعٍ إِلى تلك “الأَماكن الـمُوحِلة”، لكنَّ لِـجسدي حاجاتٍ لا يعرفها قلبي.

وحدها باقية لي: الموسيقى

أَعرف أَنْ سأَموتُ وحيدًا بلا حُبّ، كما غاليليو قبلي: هو الأَعمى وأَنا الأَصَمّ. لا عزاءَ وحيدًا لي إِلَّا الموسيقى. هي هَدْهَدَتْني، وهي أَنقَذَتْني من الانتحار. وحدَه الفنُّ خلاصي. ولن أُغادرَ هذا العالَـم قبل أَن أُطْلع مني كلَّ ما أُحسُّه يَنبُض بي.

لذا تبقى الـموسيقى أَصدَقَ رفيقاتي، وأَسـماهُنَّ على الإِطلاق!

الحلقة السادسة: أوهامي السياسية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى