تركيا تتحوّلُ براغماتيًا في ليبيا: الإنخراطُ المُباشَر مع صدّام حفتر
في ظل التحوّلات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة، تعمل أنقرة على توسيع تواصلها الاستراتيجي مع عائلة حفتر، في خطوة تهدف إلى تعزيز حضورها الإقليمي وترسيخ دورها كوسيطٍ رئيس في الملف الليبي.

علي بن موسى*
لم يكن استقبال تركيا لصدام حفتر، نجل الحاكم الفعلي لشرق ليبيا الجنرال خليفة حفتر، حافلًا بالمراسم فحسب، بل كانت له تداعياته على توازن القوى الدقيق في هذا البلد الواقع في شمال أفريقيا. ففي الرابع من نيسان (أبريل) الفائت، سار صدّام على السجادة الحمراء في أنقرة، حيث استقبله قائد القوّات البرّية في الجيش التركي سلجوق بيرقدار أوغلو، بصفته قائدًا للقوات البرّية في ما يُعرف ب“القوات المسلّحة العربية الليبية“ التابعة لوالده. كما التقى صدّام وزير الدفاع يشار غولر وعددًا من كبار المسؤولين العسكريين.
وللمفارقة، تزامنت الزيارة مع ذكرى محاولة حفتر الأب الفاشلة للاستيلاء على طرابلس بالقوة في العام 2019، وهو الهجوم الذي ساعدت تركيا في صدّه من خلالِ تدخُّلٍ عسكري مباشر دعمًا لحكومة الوفاق الوطني السابقة. وبعد ست سنوات، لا تزال ليبيا غارقةً في جمودٍ سياسي من دون إحرازِ أيِّ تقدُّمٍ في الجهود التي تقودها الأمم المتّحدة لتشكيل سلطةٍ تنفيذية موحَّدة وإجراء انتخابات. وقد جاءت تحرُّكات أنقرة بعد وقتٍ قصير من إعلان أثينا عن أنّ شركة “شيفرون” العملاقة للطاقة تعتزم التنقيب عن الغاز تحت سطح البحر في منطقة شاسعة جنوب جزيرة كريت، وهو ما يبدو أنّه قد دفع أنقرة إلى ردِّ فعلٍ استباقي لمواجهة تحرّكات أثينا في شرق المتوسط. وقد تراجعت قدرة تركيا على المناورة أمام اليونان بسبب عدم تصديق سلطات شرق ليبيا على مذكّرة التفاهم البحرية التي وقّعتها أنقرة مع حكومة الوفاق الوطني في العام 2019، الأمر الذي يُعيقُ وصولها إلى السواحل الشرقية الليبية القريبة من المناطق الاقتصادية الخالصة المتنازع عليها مع أثينا.
وبحسب بيانٍ يُعتقَد أنّه صادرٌ عن مكتب صدّام حفتر، ركّزت الزيارة على التعاون الثنائي في القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك. ومع ذلك، أشارت تقارير صحافية إلى أنّ الجانبين بحثا أيضًا إجراءَ تدريباتٍ مشتركة، وتنفيذَ خططٍ لتدريب عناصر من “القوّات المسلّحة العربية الليبية” في مجالاتٍ مثل الصيانة وإزالة الألغام والدعم الفني وتشغيل الطائرات المسيّرة تركية الصنع.
وعلى الرُغم من غيابِ تأكيداتٍ رسمية بشأن توقيع اتفاقيات عسكرية، تُعَدُّ الحفاوة التي أبدتها تركيا تجاه صدّام مؤشّرًا على تحوُّلٍ إستراتيجي في علاقاتها مع شرق ليبيا، واعترافها بـ”القوّات المسلّحة العربية الليبية” كجهة عسكرية شرعية بحُكمِ الأمر الواقع، وهو ما يمثّل قطيعة مع سنواتٍ من وصفها لتلك القوّات بـ”الانقلابية”، واتهام “القوات المسلّحة العربية الليبية” لتركيا برعاية “الإرهاب”. يثير احتضان أنقرة المفاجئ لصدّام حفتر تساؤلاتٍ جوهرية عن إستراتيجيّتها المُتَغيّرة في ليبيا، وانعكاسات ذلك على مستقبل البلاد والمنطقة بأسرها.
الرهان على صدّام
تُمثّلُ زيارة صدّام حفتر تتويجًا لنهجٍ براغماتي اعتمدته أنقرة منذ توقّف الأعمال العدائية في منتصف العام 2020. وقد بدأ هذا النهج بالانفتاح على مجلس النوّاب المتمركز في الشرق، تلاه سريعًا استئناف الأنشطة التجارية التركية في بنغازي. إلّا أنّ نقطة التحوّل الحقيقية جاءت بعد جهود الإغاثة التركية اللافتة في أعقاب فيضانات درنة المدمّرة في العام 2023، والتي مهّدت الطريق أمام عودة شركات البناء التركية إلى شرق ليبيا، حيث تشارك حاليًا بنشاطٍ في مشاريع إعادة الإعمار التي يشرف عليها “صندوق إعادة إعمار درنة” بقيادة بلقاسم حفتر، أحد أبناء خليفة حفتر. وفي سياق تعزيز هذه العلاقات، استأنفت الخطوط الجوّية التركية رحلاتها إلى بنغازي، كما تُجرى مباحثات حول إمكانية إعادة فتح القنصلية التركية هناك.
يُعزى انخراطُ أنقرة المتزايد في شرق ليبيا إلى تداخُلِ اعتباراتٍ جيوسياسية واقتصادية، لكنّه يعكسُ كذلك إدراكَ أنقرة المُتنامي، والذي تَشكّل على مدى سنوات من الانخراط العميق والمُحبِط في الشأن الليبي، بأنّ المؤسّسات السياسية الرسمية في البلاد ليست سوى واجهات تخدم مصالح أمراء الحرب وسماسرة السلطة العسكرية النافذين في الشرق والغرب على حدٍّ سواء.
وفي ظلّ قبضة عائلة حفتر الحديدية، حافظت “القوّات المسلّحة العربية الليبية” على قدرٍ من الاستقرار في شرق ليبيا وأجزاءٍ واسعة من الجنوب حيث معظم احتياطيات النفط الليبي. في المقابل، لا يزال المعسكر الغربي المتحالف تقليديًا مع تركيا يفتقر إلى قيادة عسكرية موحّدة، ويعاني انقسامات وصراعات داخلية مستمرّة. ويوضّح هذا الفرق، إلى جانب طموحات تركيا الاقتصادية، جُزءًا من المنطق البراغماتي الكامن وراء انفتاح أنقرة على “القوّات المسلّحة العربية الليبية”، واعترافها الفعلي بسلطتها على الشرق.
منذ تولّي صدّام حفتر، البالغ من العمر 34 عامًا، قيادة أقوى الوحدات في “القوّات المسلّحة العربية الليبية”، سعى إلى ترسيخ مكانته كوريثٍ مُحتَمَل وموثوق لوالده المُسِنّ. وعلى الرُغم من الاتهامات المستمرّة بضلوعه في جرائم حرب، زار مدنًا رئيسة في المنطقة، بما فيها تل أبيب حسبما أُفيد، وبنى شبكات اقتصادية واسعة شملت علاقات مع مسؤولين في حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس.
الأمرُ الأهم بالنسبة إلى أنقرة أنَّ صدّام يحتفظ بعلاقاتٍ مالية طويلة الأمد ومُربِحة معها. فقد أفادت تقارير بأنّ تركيا استلمت مبالغ مالية ضخمة استولت عليها إحدى كتائب صدّام من فرع مصرف ليبيا المركزي في بنغازي في العام 2017، قبل أن تُنقَلَ إلى وجهةٍ غير معلومة لاحقًا. علاوةً على ذلك، انخرط صدّام في تجارتي الخردة المعدنية والذهب مع وسطاء أتراك، في الوقت الذي يُقال أيضًا إنّ تركيا قد شكّلت قناةً مالية حيوية لصفقات نفط غير قانونية ومبادلات بين الوقود والنفط الخام تورّطت فيها عائلة حفتر. بالإضافة إلى ذلك، أدّى صدّام دورًا مباشرًا، وربّما محوريًا، في مفاوضات توسّطت فيها قطر للإفراج عن سبعة مواطنين أتراك في أواخر العام 2021 كانت احتجزتهم قوّات والده قبل ذلك.
وبالتالي، لم يكن قرار أنقرة بالانخراط المباشر مع صدّام حفتر وليد اللحظة، بل جاء مدروسًا ومحسوبًا. فقد سبقت زيارته في نيسان (أبريل) دعوة إلى إسطنبول في تشرين الأول (أكتوبر) 2024 للمشاركة في معرض «SAHA EXPO» للصناعات الدفاعية. وكان لقاؤه رفيع المستوى مع وزير الدفاع التركي هو التواصل الرسمي الأوّل بين ممثّل رفيع عن الحكومة التركية وقيادة “القوّات المسلّحة العربية الليبية”. إنّ الروابط المالية الراسخة لصدّام، وقدرته المُثبتة على إدارة مفاوضات معقّدة تمسّ المصالح التركية، ومساره الواضح كوريثٍ محتمل لقيادة شرق ليبيا، تجعل منه نقطة اتصال عملية، وربّما لا غنى عنها بالنسبة إلى إستراتيجية أنقرة المتغيّرة في المنطقة.
إنخراطٌ محسوب
من خلال استضافة صدّام حفتر، بعثت أنقرة بجملة رسائل مدروسة بدقّة على المستويين المحلّي والإقليمي. محلّيًا، كانت الرسالة واضحة: لم تعُد تركيا تحصر انخراطها في ليبيا ضمنَ معسكرٍ واحد. ويعكسُ هذا التحوّل قراءة أنقرة الواقعية لحالة التشرذم المُزمِنة لدى القيادة السياسية والأمنية في غرب البلاد، في مقابل المعسكر الشرقي الأكثر وحدة تحت قيادة حفتر. أمّا على الصعيد الإقليمي، فتعكس الزيارة مساعي أنقرة إلى ترسيخ نفسها كوسيطٍ قادرٍ على التفاعل مع جميع الفاعلين الرئيسيين في المشهد الليبي. ويأتي هذا التوجّه بعد تطبيع علاقاتها مع داعمي حفتر الرئيسيين، أي القاهرة وأبو ظبي، مع حفاظها في الوقت نفسه على علاقات براغماتية، وإن كانت معقّدة، مع موسكو. يعكس هذا النهج متعدّد الأبعاد إدراكًا أوسع لدى أنقرة بأنّ حماية مصالحها في ليبيا تستوجب القدرة على التكيّف مع الديناميّات المحلّية والإقليمية سريعة التغيّر، لا سيّما في ظل الحرب على غزة وبعد سقوط نظام الأسد في سوريا.
في حال نجحت أنقرة في كسب ثقة معسكر حفتر، فقد تضع نفسها في موقع الوسيط الأكثر موثوقية بالنسبة إلى واشنطن في ليبيا. إذ تسعى الولايات المتّحدة إلى دفع حفتر الأب نحو تقليص اعتماده على روسيا، والذي يبرّره الأخير بأنه ضروري لموازنة الدعم التركي لخصومه في الغرب. في الوقت نفسه، قد يرى معسكر حفتر أنّ تقوية علاقاته مع تركيا، العضو الرئيس في حلف “الناتو”، وسيلة حيوية لطمأنة كلّ من واشنطن وبروكسل، لتجنّب أي عزلة دولية مستقبلية قد تترتّب على خلفية علاقته بموسكو.
وعلى الرُغم من تبدّل مقاربتها تجاه الشرق، لم تُهمِل أنقرة طمأنة حلفائها في الغرب الليبي. ففي منتدى أنطاليا الديبلوماسي في 11 نيسان (أبريل)، أكّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة التزامهما باستمرار التعاون الثنائي. وبعد ذلك بأيام، استقبل كبار المسؤولين العسكريين الأتراك محمود حمزة، رئيس استخبارات حكومة الوحدة الوطنية وقائد “اللواء 444″، الذي يحظى، مثل صدّام، بدعم أميركي في جهود توحيد الجيش الليبي الرامية إلى احتواء النفوذ الروسي المتزايد. وتوحي هذه التحرّكات بوجود تنسيق تركي-أميركي حول زيارة صدّام.
ومن طريق بناء علاقات براغماتية مع كلا المعسكرين في الشرق والغرب، تعمل أنقرة على ترسيخ موقعها لحماية مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية في ليبيا، وتعزيز دورها كفاعلٍ إقليمي مؤثّر في ظلِّ تغيّر خارطة التحالفات. مع ذلك، لا تخلو عملية الموازنة هذه من مخاطر، نظرًا لهشاشة ميزان القوى، وتقلّب التحالفات، وتشابك الأجندات. إذ يسعى حفتر نفسه إلى المناورة من أجل استغلال التناقضات الدولية المتنافسة في لعبةٍ معقّدة قد تُحدّدُ مسارَها مفاجآتٌ ميدانية على الأرض أكثر من الزيارات والاستقبالات الرسمية، إذ يمكن لأيِّ تطوّرات أن تزيد من توريط تركيا في الصراع الليبي الداخلي أو تعقيد علاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية الأخرى الفاعلة في ليبيا. في المحصّلة، يكشف رهان أنقرة على حفتر عن مراجعة أوسع لسياستها الخارجية، أصبحت تقودها بدرجة متزايدة الواقعية والمرونة والفهم الواضح لتغيّر الديناميات الإقليمية.
- علي بن موسى هو زميل زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. تخرّج أخيرًا من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، حاملاً شهادة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية. تشتمل مواضيع بحثه على الانتقال الديموقراطي، وبناء الدولة، والتاريخ السياسي والسياسات الخارجية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.