أَلف ليلة و… كَرَكَلَّا
هنري زغيب*
أَعلَن أَنْ سيعود. وها هو عاد. ما إِن انحسرَت سُحُب الشؤْم فوق لبنان حتى عاد ليَنْثُـرَ في فضاء لبنان سمفونيا الفرح.
كأَنما قدَرُهُ، عبدالحليم كركلَّا، أَن يحملَ إِشراقات لبنان، ويَنْثُرَها جمالاتٍ على أَكبر مسارح العالَم: من باريس إِلى لندن إِلى واشنطن إِلى نيويورك إِلى بكين إِلى طوكيو وريو دي جانيرو ومُسقط وفرنكفورت وأَبو ظبي والقاهرة وقطَر والكويت ودمشق والجزائر وتونس والمغرب، وستائر مسرحٍ أُخرى انفتحَت لجمهور شاهدَ العرض واندهش لفُتُونه، وصفَّق للبنان الذي أَطْلعَ إِبداعًا سليلَ قيَمٍ فنيةٍ عُليا وسْط تخبُّط مصيره السياسيّ.
احتفاءً بعودة الحركة إِلى مفاصل الحياة الثقافية اللبنانية، يفتح عبدالحليم كركلَّا ستارةَ مسرحه* على عمله المجدَّد “أَلف ليلة وليلة”، ربيعًا يقطُر جمالًا ملوَّنًا على ربيع لبنان الطبيعة، والإِبداع الثقافي من كل لون.
وإِذا قصص “أَلف ليلة وليلة” شكَّلَت مصدر إِلهامٍ لِمخيِّلة الفنانين والمبدعين في العالم، وكانت ذات تأْثير كبير على الأَدب العالَمي والثقافة الشعبية، من الحكواتي إِلى جمهور الشارع إِلى المسرح والسينما والكتُب، فهي في مسرح كركلَّا إِطلالةٌ زَوغى على سحر الشرق، بأَزياءَ تعكس سممفونيا أَلوان تتلأْلأُ بِلُغَة أَجساد الراقصين على موسيقى “شهرزاد” ريمسكي كورساكوف، و”بوليرو” موريس رافيل. والجديد الخاص بمسرح كركلَّا: تَزاوُجُ الآلات الغربيَّة مع رنين الآلات الشرقيّة مضافًا إِلى كتابة كورساكوف ورافيل.
عبدالحليم كركلَّا تناولَ الخيط الروائي المعروف: مأْساة شهريار باكتشافه خيانةَ زوجته، وأَمرِه انتقامًا باستقدامِ صبيةٍ كلَّ ليلة، يتزوَّجها ثم يقتلُها عند الصباح. وحين جاءَتْه شهرزاد ابنةُ كبير وزرائه، بدأَت تروي له كلَّ ليلةٍ حكايةً تمتدُّ حتى الصباح، وتَعِدُه بإِكمالها في الليلة التالية. وامتدَّت الحكاياتُ أَلفَ ليلةٍ وليلة، فعاد إِلى قلبه السلام، وأَنقذَت شهرزاد بناتِ جنْسها من القتل، وبلْسَمَتْ عذابَ شهريار، معيدةً إِلى قلبه الفرح وإِلى مملكته السعادة.
هذا الخيط الروائي تناولَه عبدالحليم كركلَّا، ونسَجَ به مشهديةً جميلةً حاكَت لها إِليسار كركلَّا لوحاتٍ كوريغرافيةً بديعة، وهي باتت مرجعًا رئيسًا تعود إِليه معاهدُ الكوريغرافيا الإِقليمية. وجاء إِخراج إِيفان كركلَّا يحتوي بهرجة الكوريغرافيا ونسيجَ السينوغرافيا ليُطْلع منهما عمَلًا على مستوًى عالَميٍّ يسافر به مسرح كركلَّا إِلى كبرى العواصم والمدن في العالم.
ويُكمل لغةَ الأَجساد في تأَنُّقها: حضورٌ مسرحيٌّ عالي الاحتراف تتأَلَّق فيه هدى حدَّاد، ويرادفُها عميد الفولكلور عُمَر كركلّا، يخاصر حضورَه جوزف عازار وغبريال يمين وسيمون عبيد، إِلى ليا بو شعيا وفرنسوا رحمة وجورج خوند وأَديب أَبو حيدر وبول عسَل.
هذا الفيض من الاحتراف العالي هيَّأَ له المايسترو عبدالحليم كركلَّا حوارًا وموسيقًى تراثيةً وأَزياءَ وإِشرافًا عامًا على عملٍ يرعاه كأَوَّل عرضٍ وإِنْ هو ليس الأَوَّل. ومن متابعتي مسيرةَ عبدالحليم كركلَّا، أَشهدُ أَنه لا يتوقَّف عن تسجيل ملاحظاته كلَّ ليلة إِبان العروض، وفي اليوم التالي يجمع الفرقة (راقصين وراقصات، ممثلين وممثلات) ويصحِّح ما كان سجَّلَهُ في عرض الليلة السابقة، ليكونَ العرض التالي مكتملًا أَكثَر أَداءً: رقصًا وتمثيلًا وتنفيذًا تقْنيًّا. واطِّلاب الكمال هذا، شيمةُ الفنان المسؤُول: عن عمله مسؤُول، حيال جمهوره مسؤُول، ومسؤُول في جوهر الثقافة العربية، وفي ذاكرة الفن اللبناني التي لا تحفظ إِلَّا القَيِّمَ الخالدَ تهديه إِلى مستقبل الوطن.
وعبد الحليم كركلَّا، إِسم من ذهَب على الصفحة الأُولى من هذه الذاكرة.
. مسرح كركلَّا – سن الفيل، الساعة 8:00 مساءَ كلّ خميس وجمعة وسبت، وبدءًا من 27 نيسان/أبريل الساعة 4:00 كلّ أَحَدَين.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).