نهايةُ حُلمِ التجارةِ الحرّة؟

كابي طبراني*

كانَ إعلانُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الأسبوع الفائت، أنَّ بلاده ستفرضُ رسومًا جمركية على جميعِ الدول الأخرى تقريبًا، مُتَوَقَّعًا على نطاقٍ واسع، ومع ذلك كان صادِمًا. حتى بعض الجزر غير المأهولة لم تَسلَم، حيث فُرِضَت عليها رسومٌ بنسبة 10% على صادراتها المُفتَرَضة. أما الرسوم الجمركية الأخرى -34% على الصين و30% على جنوب إفريقيا و20% على الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال لا الحصر- فستكون لها عواقب وخيمة على التجارة والتنمية العالميتَين.

بالنسبة إلى العديد من قادة العالم، وإلى الكثيرين من الأميركيين والأسواق العالمية، لا يزالُ الهدفُ الأساسي لسياسة ترامب غامضًا. فقد أعطى إشاراتٍ مُتناقضة. من جهة يقول إنَّ الرسوم الجمركية ستجعل أميركا مكتفية ذاتيًا، ومن جهة أخرى، يقول إنها إجراءٌ “متبادل”. فالأولى تعني ضمنيًا حمائية دائمة، بينما تشير الثانية إلى استراتيجيةٍ لإجبار العالم أجمع على معالجة الرسوم الجمركية معًا. قراءةٌ أخرى، بناءً على مجموعةٍ مختلفة من التصريحات السابقة، هي أنَّ ترامب لا يُمانعُ أيًا من السيناريوهين، طالما أنَّ الولايات المتحدة تُحقّق فائضًا في جميع علاقاتها التجارية.

الواقع أنَّ العديدَ من حلفاء الولايات المتحدة يشعرُ بالإحباط والحيرة والانزعاج من نهجِ ترامب العدواني تجاه ما كان يُعرَفُ سابقًا بأوثق شراكات واشنطن. من المطالبة بدفع المزيد مقابل امتياز الحماية، وصولًا إلى فرضِ قيودٍ تجارية مرتفعة تاريخيًا عليهم، لجأ ترامب إلى أسلوبٍ افتراسي كامل في ما يتعلق بالهيمنة الأميركية.

في حين أنَّ نطاقَ مطالب ترامب وإملاءاته على حلفاء الولايات المتحدة مُتَطرِّفٌ في درجته، فهل تختلف حقًا في نوعها عن كيفية تفاعُل الحلفاء تاريخيًا؟ في الواقع، ورُغم أنَّ البعضَ قد يتساءل كيف يمكن لترامب أن يُعامِلَ الحلفاء بهذه الطريقة، إلّا أنَّ الواقعَ هو أنَّ هذا السلوك ليس غير مسبوق، سواء من جانب الولايات المتحدة أو بشكلٍ عام.

قبل سنوات، كتبَ الخبيرُ السياسي وباحث العلاقات الدولية جايمس مورو مقالًا مؤثّرًا بعنوان “التحالفات وعدم التماثُل” (Alliances and Asymmetry) في “JSTOR”، المكتبة الرقمية للمجلات الأكاديمية التابعة لجامعة لندن، جادلَ فيه بأنه في حين يُمكِنُ للدول من جميع الأحجام تشكيل تحالفات، فإنَّ التحالفات الأكثر “طبيعية” من حيث تواترها التاريخي واحتمالية استمرارها هي تلك التي تنشأ بين دولٍ غير مُتكافئة في الحجم والقوة. وذلك لأنَّ مثل هذه الاقترانات من المرجح أن تُولّدَ منافعَ مُتبادَلة لكلا عضوَي التحالف. وعلى وجه التحديد، تحتاج الدولة الأصغر إلى الحماية، والتي يمكن للدولة الأكبر توفيرها. ويمكن للدولة الأكبر، بدورها، أن تستفيدَ من “المُكافآت” التي يمكن أن تحصل عليها من الدولة الأصغر -سواء كانت حقوقًا أساسية أو وصولًا تفضيليًا إلى الموارد الاقتصادية الرئيسة أو حتى السيطرة على السياسة الخارجية للدولة الأصغر- مقابل الأمن الذي توفّره. بعبارةٍ أخرى، بدلًا من أن تكونَ التحالفات مُتماسكة من خلال المصالح المشتركة أو القِيَم المشتركة، فإنها مُتماسِكة من خلال التبادُل الخام.

لذا، بينما أصبحت واشنطن في السنوات الأخيرة تدّعي بأنَّ حلفاءها هم “أقرانٌ” و”شركاء”، فإن هذه اللغة تخفي الحقيقة الكامنة وراء هذه العلاقة. تاريخيًا، أدّى الثمن الباهظ الذي تدفعه القوى الصغيرة للحصول على مساعدة القوى الكبرى إلى جعل التحالفات أشبه بعملياتِ ابتزازٍ للحماية منها بالشراكات المشتركة.

لننظر في كيفية استخدام نموذج “الدفع مقابل الحماية” هذا من قبل إحدى الدول ذاتها التي تُشكّكُ الآن في معاملة ترامب الحالية لحلفاء الولايات المتحدة: فرنسا. في عشرينيات القرن الفائت، كانت دولة بولندا المستقلة حديثًا تسعى إلى ضمانِ أمنها من مُحتلّيها السابقين، ألمانيا والاتحاد السوفياتي آنذاك. وللقيام بذلك، سعت وارسو إلى التحالف مع فرنسا، لأنها كانت القوة القارية الوحيدة القادرة على موازنة القوة الألمانية والسوفياتية في ذلك الوقت. لكنَّ الفرنسيين كانوا على استعدادٍ فقط لضمان السيادة البولندية إذا دفع البولنديون ثمنًا لذلك. على وجه التحديد، طالبت باريس وارسو بمنحها وصولًا تجاريًا تفضيليًا إلى الفحم في منطقة سيليزيا العليا التي استحوذت عليها بولندا عقب توقيع معاهدة فيرساي.

وقد أقرّ مسؤولٌ بولندي، عند توصيته بالتحالف للبرلمان البولندي، بأنَّ الجانبَ التجاري من الاتفاق “يمنحُ فرنسا أكثر مما تمنحنا إياه”. لكنه مع ذلك اعتبرَ الاتفاقَ مفيدًا، لأنه يُنشئ “تحالفًا وثيقًا مع فرنسا”.

ومن الجدير بالذكر أنَّ صفقةَ “الفحم مقابل الحماية” الفرنسية مع بولندا في عشرينيات القرن العشرين بدت وكأنها تُنبئُ بترتيب “النفط مقابل الحماية” الذي أكد منذ فترة طويلة على الشراكة بين الولايات المتحدة والسعودية، أو صفقة “المعادن مقابل الحماية” التي يسعى ترامب إلى إبرامها بين الولايات المتحدة وأوكرانيا.

وبالمثل، خلال الحرب الباردة، استغلت الولايات المتحدة، على نحوٍ سيّئ، الوضع الجيوسياسي الهشّ لألمانيا مع حشد القوات السوفياتية على حدودها، ضاغطةً على برلين لشراءِ أسلحةٍ أميركية، وشراءِ سندات خزانة أميركية، والاحتفاظ بالدولار الأميركي خلال فترة توسُّع نقدي سريع في الداخل. في الواقع، خلال معظم فترة الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة تُصدّر التضخّم بإجبار حلفائها على امتصاصه.

أو لننظر في كيفية تعامل الولايات المتحدة أخيرًا مع حليفها الرئيس القديم، اليابان. خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ومع تهديد السيارات والإلكترونيات اليابانية للمصنّعين المحليين الأميركيين، ترسّخت ظاهرة “رهاب اليابان”. ورُغم تحالف البلدين وتعاونهما في مواجهة التهديدات التي شكّلتها الدول الشيوعية في آسيا خلال الحرب الباردة، كان يُنظَرُ إلى اليابان في واشنطن على أنها تهديدٌ متزايد للمصالح الاقتصادية الأميركية. ونتيجةً لذلك، ضغطت الولايات المتحدة على اليابان لكبح جماحها اقتصاديًا. ولإدراكها مدى اعتمادها على واشنطن في أمنها، رضخت طوكيو لهذه الضغوط مرارًا وتكرارًا، سواءً بالموافقة على التلاعب باقتصادها من أجل تعديل قيمة الدولار الأميركي أو بتقييد صادرات السيارات إلى الولايات المتحدة “طواعيةً”.

والسؤال الذي يفرضُ نفسه هنا: هل الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة تعني بالضرورة نهاية حلم التجارة الحرة؟

في غيابِ تفسيرٍ قاطع، لا يزال العالم خارج حدود أميركا يجهل حتى الآن ما ينتظره. في الغرب، معقل التجارة الحرة تاريخيًا، تلوحُ في الأفق حربٌ تجارية شرسة بين واشنطن وأوروبا.

لكن روح التجارة الحرة لا تزال تحتفظ ببعض المرونة في جميع أنحاء العالم، ويعود ذلك جُزئيًا إلى الحماسة التي لاقتها في الشرق في السنوات الأخيرة. في حين لجأ الكثيرون إلى التعريفات الجمركية للحصول على موطئ قدم على سلّمِ التنمية في وقتٍ مبكر، فإنَّ الدولَ الآسيوية تُدرِكُ أنها كسبت من الأسواق المفتوحة أكثر مما خسرت، ويمكنها الاستمرار في ذلك حتى بدون القيادة الأميركية.

عندما انسحب ترامب من الشراكة عبر المحيط الهادئ في بداية ولايته الأولى، خشي مؤيدو اتفاقية التجارة الحرة بين دول شرق آسيا وأميركا الشمالية والجنوبية أن يؤدي ذلك إلى زوالها. بدلاً من ذلك، تحوَّلت الشراكة عبر المحيط الهادئ إلى “الشراكة الشاملة والتقدّمية عبر المحيط الهادئ”، مُثقلةً باسمٍ أكثر ثقلًا ولكنها أكثر انسيابية في غياب المطالب الأميركية.

وفي الشرق الأوسط أيضًا، سعى العديد من الحكومات إلى توجيه نفسه نحو الانفتاح. فقد وقّعت الإمارات العربية المتحدة سلسلةً من اتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة مع دولٍ عدة مثل الهند وتشيلي. كما إنَّ لدى العديد من الدول الأخرى في المنطقة -بما فيها البحرين والأردن وعُمان- اتفاقيات تجارة حرة مع أميركا.

مع ذلك، سيُشعَرُ بتأثير الرسوم الجمركية الجديدة في هذه المنطقة بالتأكيد، لا سيما بين الدول التي لا تزال تعمل على تطوير قطاعاتها الصناعية. الأردن، على الرغم من كونه أول دولة عربية توقع اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة، فقد فرضت عليه واشنطن رسومًا جمركية بنسبة 20%. العراق، حليف أميركا القديم ذو الاقتصاد غير النفطي الهشّ، يواجه رسومًا جمركية بنسبة 39%. ومن المقرر أن تواجه دول مجلس التعاون الخليجي الأقوى اقتصاديًا رسومًا جمركية بنسبة 10% – وهو الحد الأدنى الذي فرضه ترامب.

مهما كانت المبررات أو الغاية النهائية، فلا شك أنَّ إعلان واشنطن في الأسبوع الفائت قد وضع إيقاعًا جديدًا وصعبًا للاقتصاد العالمي. ولكن، بقدر استطاعته، من المرجح أن يواصل الشرق مع بعض دول أميركا اللاتينية وغالبية دول الغرب (بدون أميركا) المَسيرة نحو سوقٍ أكثر حريةً وخضوعًا للقواعد. إنه الطريقُ إلى الازدهار. وربما ينضمُّ المشكّكون في التجارة الحرة إلى صفوفه مع مرور الوقت.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى