“حزب الله” وإيران ما بَعدَ سقوطِ الأسد: أسئلةٌ مُحرِجة وحقائق قاسية

بنى “حزب الله” استراتيجيته الردعية في الداخل اللبناني على شعار “نحمي ونبني”، المستند إلى امتلاكه قدرات حربية توازن إن لم تكن تفوق ما لدى العدو، وقدرات مالية تسمح له مع الدعم الإيراني بضخِّ المساعدات والتعويض عن الخسائر. وقد أظهرت الحرب وهن القدرات القتالية للحزب مقابل الآلة الصهيوينة-الأميركية؛ كما أظهرت الأسابيع الأخيرة عدم قدرة (أو استطاعة) إيران أو الحزب تقديم التعويضات المطلوبة للأهالي، أو فرض الانسحاب الإسرائيلي، ولجوء الحزب في خطابات أمينه العام الجديد الشيخ نعيم قاسم إلى طرح القضية على أنها “مسؤولية الدولة اللبنانية والأشقاء العرب”.  

الشيخ نعيم قاسم: الإعمار مسؤولية الدولة اللبنانية والأشقاء العرب.

الدكتور سعود المولى*

يبدو أن الوضعَ بالنسبة إلى “حزب الله” وإيران ما بعد سقوط بشار الأسد ليس كما قبله… وقد أثبتت وقائع الأسابيع الماضية صحّة هذه المقولة:

أوّلًا– تغيَّرَ الوضعُ في الشرق الأوسط بشكلٍ جذري في غضون أسابيع قليلة من استلام الرئيس الأميركي دونالد ترامب مهام منصبه. فهو فرض وقف إطلاق النار في الشرق الأوسط (غزة ولبنان) وفرض مع حلفائه (السعودية تحديدًا) انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية وتكليف رئيس للحكومة ثم تشكيلها. ثم إنه طرح رؤيته الخاصة جدًا للمستقبل المحتمل لقطاع غزة ما حرّكَ ركود العالم العربي. كما أعاد الاتصال بالرياض في حين كانت إدارة جو بايدن على علاقة سيئة مع السعودية وولي العهد الأمير محمد بن سلمان. تلا ذلك جملة من التطورات العربية المثيرة تمثلت خصوصًا في ردود الفعل العربية الساخطة التي بلغت ذروتها في قمة القاهرة وقراراتها التي اعتمدت المشروع المصري لإعادة إعمار قطاع غزة، وأكدت رفض الزعماء العرب تهجير الفلسطينيين من القطاع بعد حرب الإبادة الإسرائيلية[1]. هذه القمة شكلت حدثًا مهمًا، لا يجوز معه الاكتفاء بتكرار المواقف الشعبية المعروفة من قرارات القمم والأنظمة (على مشروعية تلك المواقف)، إذ إن الحال اليوم مختلف. كما ينبغي التوقف كثيرًا أيضًا عند اقتراح الرئيس الفلسطيني محمود عباس بخصوص إعادة تشكيل السلطة الفلسطينية والعفو عن خصومه داخل “فتح”[2].

ثانيًا- كان لسياسة ترامب الجديدة حول أوكرانيا، وما نتجَ عنها من اضطرابٍ دولي وتمحورات وتموضعات جديدة، انعكاسٌ مباشر على علاقة أميركا بروسيا وعلاقتها بالدول الأوروبية، ما يستدعي المراقبة والمتابعة. لقد انهارت فجأة الأسس الجيوسياسية التي قام عليها الاتحاد الأوروبي بعد الحرب الباردة، وأهمها دوام الارتباط بين أوروبا وأميركا عبر الأطلسي إلى ما لا نهاية. وفي ما يتعدى مسألة مصير أوكرانيا، يخشى الأوروبيون من الصدمة الناجمة عن “اتفاق” سيئ قد يجريه ترامب مع فلاديمير بوتين على وقفٍ لإطلاق النار في أوكرانيا، وارتدادات ذلك كله على الهيكل الأمني ​​للقارة الأوروبية، ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية[3]. نحن فقط في بداية مرحلة تاريخية جديدة، الأمر الذي سيستغرق بعض الوقت للتبلور. 

ثالثًا- عادت الإدارة الأميركية إلى استراتيجية الضغوط القصوى على إيران بما يذكّر بمرحلة الإدارة الأولى للرئيس ترامب، حين مزّق الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة دول “خمسة زائد واحد”، وطبّق سياسة الاستمرار في خنق إيران عبر المزيد من العقوبات ومصادرة الأموال والحرب ضد قطاع النفط والغاز. وكان تتويج هذه الحرب قتل أحد أبرز القيادات العسكرية الإيرانية، اللواء قاسم سليماني. هذا الضغط انتهى مع خسارة ترامب الرئاسة، لكنه يعود اليوم إلى البيت الأبيض، مع فارق أنه يترك هذه المرة نافذة حل ضيّقة مع الإيرانيين، وفق شروط قاسية يصعب أن تقبل بها طهران. والحال أن حوارًا إيرانيًا- أميركيًا بالواسطة حصل في الأسابيع الماضية، لم تكن نهاياته إيجابية، وترجم ترامب هذا الفشل بمزيد من التضييق عبر إعلان وزارة الخزانة الأميركية بأنها “ستُغلق قطاع النفط في إيران وستمنعها من تصنيع المسيّرات”، وأن العقوبات “ستشمل منع إيران من الوصول إلى النظام المالي العالمي، مؤكدة أنَّ دفع إيران نحو الإفلاس سيكون الخطوة الأولى في استراتيجيتها المُعدّلة لفرض العقوبات”. كما تقصّدت واشنطن التلويح بعملٍ عسكري ضد إيران، عبر تسليم إسرائيل منتصف شباط (فبراير) شحنة من القنابل الثقيلة من نوع “MK-84”. ولا يخفى أنَّ هذه القنابل تُستَخدمُ في عمليات تستهدف منشآت مُحصّنة تحت الأرض، كتلك التي يزعم الإسرائيليون أنَّ إيران تملكها[4].

رابعًا- ومن أبرز حوادث الأسابيع الماضية، احتدام الصراع الداخلي في إيران، وأبرز مظاهره الأخيرة استقالة (أو إقالة) مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف، المعروف بأنه رجل التفاوض مع أميركا والحليف الأقوى للرئيس مسعود بزشكيان. وفي حين يرى البعض في الأمر انتصارًا للطرف الأصولي المتشدد الرافض لصفقة النووي ولأي تعاون أو تفاهم مع الغرب، يرى آخرون أنه على العكس من ذلك دليل على اقتراب التفاوض إلى خواتيم إيجابية، وأن الطرف الحاكم يريد الاستئثار بثمار ومكاسب الحل المرتقب طالما هو في الحكم، تمهيدًا للانتقام من حلف بزشكيان-ظريف وإسقاطه في الانتخابات المقبلة. في كل الأحوال جاءت استقالة ظريف بعد ساعات من عزل عبد الناصر همتي، وزير الاقتصاد في حكومة بزشكيان، ما يعني اندلاع مواجهة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ونهاية ما سمي “الإجماع الوطني”، الذي تحقق عقب دعم خامنئي انتخاب بزشكيان على حساب المرشحين المتشددين أمثال سعيد جليلي، ودعمه مرتين تعيين ظريف[5].

خامسًا- يبقى أنَّ الأهمَّ  برأيي يتمثّل في الوضع في سوريا ودور إيران في التطورات الميدانية المتمثلة بالمعارك في منطقة الساحل وما يحكى عن تنسيق إيراني عالي المستوى مع قوات عسكرية من بقايا النظام السابق ومجموعات كبيرة من “حزب الله” والميليشيات العراقية والكردية، لإسقاط الإدارة الجديدة في دمشق. وقد أشار رئيس المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن إلى أنَّ “السلاح الذي استخدمته فلول الأسد لم يصل من إيران، بل من لبنان، وكل ما يقال عن أنَّ الحدود اللبنانية مضبوطة، غير صحيح على الإطلاق”[6]. وهنا يجدر التذكير بالمواقف الإيرانية ما بعد سقوط الأسد وأبرزها ما نُسِبَ إلى السيد علي خامنئي بأنّ “هناك أحرارًا في سوريا قادرون على إسقاط النظام الجديد وإعادة أمجاد سوريا التاريخية”[7]. وبمعزل عن التفاصيل العسكرية، فإنّ الإشارة إلى بعض المواقف السياسية الإقليمية والدولية تُعيننا في فهم هذه التطورات في سياقها، وتقدير انعكاساتها الإقليمية، وعلى لبنان تحديدًا. ففي مقابل الدعوات الإيرانية والعراقية واللبنانية إلى إسقاط النظام الجديد، أسرعت تركيا والمملكة العربية السعودية ومصر وقطر والأردن (وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي) إلى إعلان تأييدها له في معركته ضد ما أسموه “الفلول”[8].

سادسًا- على الرُغم من انسحاب الجيش الإسرائيلي في 18 شباط (فبراير) من البلدات والقرى التي كان يحتلها في جنوب لبنان ، احتفظت إسرائيل بخمس نقاط داخل الأراضي اللبنانية، ما يُمثل خرقًا مفضوحًا للقرار 1701. كما شهدت الأسابيع الماضية المزيد من الغارات التي شنها الطيران الحربي الاسرائيلي في الجنوب والبقاع، كما في سوريا، حيث ربط بنيامين نتنياهو بين الحدثين حين قال إنَّ إسرائيل “ستحتفظ بمواقعها كإجراءٍ دفاعي ووفق ما تقتضي الضرورة” (وهو يقصد المواقع في لبنان وسوريا)، مضيفًا أنَّ تل أبيب “لن تسمح لقوات هيئة تحرير الشام أو الجيش السوري الجديد بدخول الأراضي الواقعة جنوب دمشق”، وطالب “بالنزع التام للسلاح من جنوب سوريا، في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء”. كما أضاف: “لن نتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية في جنوب سوريا”[9].

سابعًا- لم تكتفِ إسرائيل بالاحتفاط بالنقاط/المرتفعات الخمس على طول الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، بل وسعت من احتلالها لمساحات جديدة من القرى الحدودية الأمامية المُتاخمة للحدود وتحويلها إلى شريط حدودي يتراوح عمقه بين ألف وألفَي متر، ثم تمددت لتحتل ست نقاط جديدة، وهذا ما تبلغته مصادر نيابية بارزة من قيادتَي القوات الدولية المؤقتة (يونيفيل) والجيش اللبناني[10]. من جهة أخرى نظم الجيش الإسرائيلي زيارةً لمئات اليهود من “الحريديم” إلى “قبر العباد” الواقع ضمن الأراضي اللبنانية في أطراف بلدة حولا، الذي يقول الإسرائيليون إنه تابع للحاخام آشي، ما عزز المخاوف اللبنانية من استعمال “الغطاء الديني” لتبرير استمرار الوجود داخل الأراضي اللبنانية مستقبلًا[11]. ولعلَّ في هذا ما يشكل تمهيدًا لإقامة “منطقة عازلة” لطالما صرّح قادة إسرائيل بأنها ضرورية لحماية مستوطنات الشمال؛ كما إنّهُ تكرارٌ لتجربة “بوابات الجدار الطيب” التي لجأت إليها إسرائيل إبان حرب السنتين في لبنان 1975-1976، والتي انتهت بـ”الشريط الحدودي” الذي ظلت تحتفظ به إسرائيل حتى انسحابها في العام 2000.

“حزب الله” ما بَعدَ الحرب

يُدركُ “حزب الله” أنَّ الوضع اليوم مختلف تمامًا وعلى كافة الصعد الدولية والإقليمة والمحلية عمّا كان عليه في العام 2006. ولذلك هو يدرك تمامًا أنَّ عليه قراءة المتغيّرات الدولية والإقليمية بعيونٍ جديدة، لا سيما وأنَّ هذه المتغيِّرات تُضافُ إلى معطيات ومتغيّرات أخرى هي التي ستحدد اتجاهات عمل الحزب للمرحلة المقبلة.

المعطى الأول والأهم هو موافقة الحزب وتوقيعه على اتفاقية إنهاء الحرب التي وضعت الجنوب، لا بل كل لبنان ومعابره الجوية والبرية، تحت الوصاية الغربية والعربية، وما نتج عن الحرب من فقدان الحزب القدرة العسكرية التي كان يتمتع بها ويلوِّح باستخدامها على الدوام. وبسبب من ذلك، لم يعد بإمكان الحزب وحليفه رئيس مجلس النواب نبيه بري التحكم بالتوازنات السياسية الداخلية كما كان يفعل خلال السنوات الماضية.

المعطى الثاني المهم أيضًا هو حجم الابتعاد المسيحي والدرزي والسني، عن مواكبة الحزب ومرافقته في هذه المرحلة الخطيرة، حتى من الحلفاء الأقربين أمثال جبران باسيل ووئام وهاب وبعض الشخصيات السنّية في الشمال والبقاع. وهذا يعني ليس فقط فقدان الحزب للغطاء الوطني الذي حرص على التمتع به طوال السنوات الماضية، إنما اضطراره للبحث عن تحالفات جديدة قد يكون ثمنها تقديم تنازلات معينة. يلفت في هذا المجال اضطرار الحزب وحليفه بري للتصويت بالثقة لحكومة يعتبرانها تمثل الحلف السعودي-الأميركي.

والمعطى الثالث المهم هنا أيضًا يتمثّل في فهم ومتابعة حقيقة الموقف الإيراني وتموضعات المسؤولين في إيران اليوم. ويبدو أنَّ ثمة صراعًا في داخل إيران (كما في داخل “حزب الله” برأيي) حول المسؤوليات في هذه الحرب ونتائجها. فبحسب الباحث المختص بالشأن الإيراني السيد حسن فحص (في مقال له بعنوان مُعبِّر: “إيران تتملّصُ من حرب الإسناد”) أنَّ ثمة سرديّةً إيرانية تقول إنّ القيادة الإيرانية طلبت من الأمين العامّ لـ”حزب الله” مُبكرًا، أي مع بداية عمليّة “طوفان الأقصى”، عدم الذهاب إلى التصعيد، وعدم فتح معركة الإسناد… وأنّ إيران وقيادتها لم تكونا موافقتين على قرار “الحزب” فتح جبهة الإسناد في لبنان. وهذا يعني أنّ هذا القرار جاء نتيجة قراءة خاصّة للأمين العامّ لـ”الحزب”، من دون الأخذ بالنصيحة الإيرانية[12]… وبحسب هذه الرواية، فإنّ طهران كانت تستعدّ لعقد لقاء تفاوضي مع الإدارة الأميركية للتفاهم على آليّة العودة إلى طاولة التفاوض من أجل إحياء الاتّفاق النووي ووقف العقوبات الاقتصادية، وهو ما كشفه مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف في لقاء حواريّ مع الصحافي الأميركي فريد زكريا على هامش مؤتمر دافوس[13]. صحيح أنَّ هذه السردية تنسجم مع رؤية الرئيس بزشكيان ونائبه المستقيل جواد ظريف، لكنها تصطدم بسرديةٍ أخرى ترى أنه كان هناك تعارض بين رؤية السيد نصر الله لأبعاد معركة إسناد غزة، ورؤية الجانب الإيراني الذي قد يكون مارس ضغوطًا على الحزب لفتح الجبهة. وبحسب بعض أوساط “حزب الله” فإن قيادة الحزب حاولت تجنُّب المواجهة الشاملة لكنها وجدت نفسها مدفوعة إلى فتح جبهة الإسناد، مع محاولتها ضبط الحرب بسبب تقديرها “المخاطر التي قد يتعرّض لها لبنان نظرًا للتعقيدات الداخلية، والوضع الاقتصادي الصعب، وعدم قدرة البيئة الحاضنة لـ”الحزب” على تحمّل الأعباء التي قد تنتج عن توسيع المعركة”[14]. ويبدو لي أن موقف السيد حسن نصر الله بتكليف الرئيس نبيه بري تمثيل الحزب وملاقاة المساعي الدولية، خصوصًا الأميركية عبر مبعوثها آموس هوكشتاين، كان بالفعل محاولة لتجنيب لبنان تبعات الحرب المدمرة. وفي هذه المسألة ما هو جدير بالمتابعة.

الأسئلة المُحرِجة التي تواجه الحزب

على الرُغمِ من أنَّ الحرب الأخيرة على لبنان كانت ضربة كبيرة للحزب أصابت هرمه القيادي الأمني والعسكري وأنهكت جسمه المقاتل الرئيسي، إضافة إلى حاضنته الشعبية في الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع، فإنَّ هذا لم يكن يعني بحال من الأحوال إنهاء وجود الحزب أو دوره الداخلي. كان هذا هو تقديرنا بعد الحرب حين قلنا إنَّ حجم الالتفاف الشعبي الشيعي حول الحزب سيشتدّ بشكلٍ دفاعي في وجه ما قد يعتبره الجمهور خطرًا يهدّد وجود الطائفة الشيعية في مواقع السلطة في لبنان[15]. والحال أنَّ ذلك تمظهَرَ بالفعل في مظاهرة تشييع “حزب الله” الأمينين العامين السابقين السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، في حشد جماهيري كبير أراد الحزب من خلاله أن يقول للعالم إنَّ الضربات العسكرية التي أصابته لم تهزمه أو تكسره، وأنَّ الثنائي (الحزب وحليفته حركة “أمل”) لا يزال فعليًا هو الممثل الوحيد للطائفة الشيعية في لبنان، ناهيك عن كونه الممثل الشرعي الوحيد في البرلمان (27 نائبًا من أصل 27)، وأنه لا يمكن بالتالي التفكير بإقصائه من المعادلة السياسية الداخلية.

والحال أنَّ الثنائي لا يزال يحتفط بقدرة على المناورة وفرض بعض الشروط كما حصل عند توزيع الحقائب الوزارية (حيث فرض الثنائي الموافقة على أسماء 4 وزراء شيعة من أصل خمسة)[16]، وكما يحصل اليوم مع بروز الخلافات في ملف التعيينات، خصوصًا في المراكز الأمنية، وتحديدًا تلك المحسوبة من حصة الطائفة الشيعية كالمديرية العامة للأمن العام، حيث يرى الثنائي أنه يتصدّى لمحاولات واشنطن والرياض لإقصائه عن أي دور في تسمية مرشحين لهذه المواقع. وكان لافتًا استباق رئاسة الجمهورية زيارة رئيس مجلس النواب قصر بعبدا يوم الجمعة 7 آذار (مارس)، وفي ذروة طبخة التعيينات، نشر موقفٍ واضحٍ على منصّة “إكس”، باعتبار “مجلس الوزراء يملك مرجعية القرار، وليس الأحزاب ولا الطوائف. نحن هنا لاتّخاذ القرارات، وليس للتعطيل، ونحن تحت أنظار الجميع في هذا السياق”[17].

ولعل نجاح الحزب في الحشد المهيب ، كما في فرض أقصى درجات الانضباط على مئات آلاف المشيِّعين، ليس حدثًا عابرًا في لبنان، كما إنه سيكون له تأثيره الكبير في مجريات الاستحقاقات المقبلة. والأمر المهم هنا أنَّ هذه المظاهرة جاءت بعد بضعة أسابيع فقط من سقوط نظام الأسد، ومن مظاهرات طريق المطار احتجاجًا على قطع خطوط إمداد الحزب وفرض الرقابة والحظر على مطار بيروت وكل المعابر الحدودية بين سوريا ولبنان. وقد جاءت الرسائل التي حملها التشييع ومظاهرات المطار والتشدد في موضوع التعيينات، لتشد من عضد جمهور الحزب بعد الفراغ الذي خلّفه اغتيال الأمينين العامين والقيادات المؤسسة للنواة الصلبة للحزب (بلغ عددهم 35 بحسب ملصق أصدره الإعلام الحربي في الحزب أخيرًا)[18]. كما إنها تكتسب أهميتها بسبب ما ساد بعد الحرب من نقاشات وجدالات إعلامية وسياسية، بين من يعلنون انهيار الحزب ونهاية مسيرته، ومن يراهنون على بقائه وخروجه قويًا من المحنة ليعود ويلعب دورًا كبيرًا في الحياة السياسية اللبنانية. هذه التطوّرات كلها، تضع الحزب في مواجهة جملة من التحدّيات القديمة الجديدة، ما يطرح على قياداته وكوادره ضرورة المراجعة النقدية الشاملة.

لقد بنى الحزب استراتيجيته الردعية في الداخل اللبناني على شعار “نحمي ونبني”، المستند إلى امتلاكه قدرات حربية توازن إن لم تكن تفوق ما لدى العدو، وقدرات مالية تسمح له مع الدعم الإيراني بضخِّ المساعدات والتعويض عن الخسائر. وقد أظهرت الحرب وهن القدرات القتالية للحزب مقابل الآلة الصهيوينة-الأميركية؛ كما أظهرت الأسابيع الأخيرة عدم قدرة (أو استطاعة) إيران أو الحزب تقديم التعويضات المطلوبة للأهالي، أو فرض الانسحاب الإسرائيلي، ولجوء الحزب في خطابات أمينه العام الجديد الشيخ نعيم قاسم إلى طرح القضية على أنها “مسؤولية الدولة اللبنانية والأشقاء العرب”[19].  ولعلَّ الطامة الكبرى كانت في عدم تقدير إمكانيات وحجم الإسناد الإيراني وحدوده، لا بل وعدم ملاحظة الاستنكاف الإيراني عن نجدة الحزب في حربٍ كانت إيران هي من دفعه إلى خوضها.

وما يحتاج الحزب إلى نقاشه أولًا وأخيرًا هو فهم مدى التأثير السلبي لتدخله في الصراع السوري إلى جانب نظام الأسد طوال سنوات، وإحجام هذا النظام عن تقديم أي دعم للبنان وغزة، وصولًا إلى انهياره السريع، ناهيك عما يتردد من معلومات حول تسليم النظام إحداثيات مواقعه ليقصفها العدو، وما شكله الصمت الروسي لا بل التواطؤ الغريب من إحراج للحزب أيضًا…

هذه الأسئلة المحرجة كان على الحزب مواجهتها وقد حاول تجنبها عبر مظاهرة التشييع التي أرادت أن تستعيد مشهد مظاهرة 8 آذار/مارس 2005 التي خرج بها الحزب بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري تحت شعار”شكرًا سوريا”، والتي أدت في ما أدت إليه إلى خروج مظاهرة 14 آذار المليونية المضادة المطالبة برحيل الجيش السوري، الأمر الذي تحقق في السادس والعشرين من نيسان/أبريل 2005. أما اليوم فإنَّ ما هو مطلوب يتعدى مجرد التصريحات والتلميحات من هنا وهناك، إلى فرض مراجعة شاملة قد تؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ الحزب كما في تاريخ لبنان المعاصر…

  • الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.

هوامش

[1] قمة القاهرة تعتمد الخطة المصرية لإعمار غزة وترفض التهجير | أخبار | الجزيرة نت

[2] 6 أسئلة تفسر أسباب قرارات رئيس السلطة المفاجئة في القمة العربية | سياسة | الجزيرة نت

[3] انظر مقالنا على موقع أسواق العرب الوضع الدولي بعد لقاء واشنطن المسرحي

الوضع الدولي بعد لقاء واشنطن المسرحي

[4] الضغوط القصوى على إيران تصيب سورية .. فلبنان! | LebanonFiles

[5] لماذا استقال جواد ظريف من منصب نائب الرئيس الإيراني؟ | سياسة | الجزيرة نت

[6] الوكالة الوطنية للإعلام – نداء الوطن : “حرب إسناد” يخوضها “الحزب” دعماً لفلول الأسد

[7] خامنئي يدعو لمواجهة سلطة سورية الجديدة.. هل تقود إيران ثورة مضادة؟ | #غرفة_الأخبار

[8] الخارجية السعودية تصدر بيان دعم للحكومة السورية – RT Arabic

مصر وتركيا تؤكدان دعمهما للدولة السورية ومؤسساتها الوطنية – RT Arabic

أمين عام التعاون الخليجي: ندعم سورية لحفظ أمن واستقرار شعبها | سكاي نيوز عربية

الجامعة العربية: ندين استهداف قوى الأمن والقتل المنفلت في سورية – RT Arabic

[9] “سنبقى في جبل حرمون”.. نتنياهو يطالب بجعل جنوب سورية “منزوع السلاح” | التلفزيون العربي

[10] بيروت تضغط على واشنطن لإلزام إسرائيل بالانسحاب

[11] الوكالة الوطنية للإعلام – الشرق الأوسط: مخاوف لبنانية من مساعي إسرائيل لإقامة «رابط تاريخي» في الجنوب

[12] إيران تتملّص من حرب الإسناد – ASAS Media

[13] إشارات متبادلة ومواقف متباينة.. هل تفتح إيران وأمريكا باب المفاوضات مجددا؟ – زاد إيران

[14] مقال حسن فحص السابق الذكر

[15] راجع مقالنا على موقع أسواق العرب: حولَ اتفاق وَقف إطلاق النار في لبنان.

حولَ اتفاق وَقف إطلاق النار في لبنان

[16] بعد حل العقدة.. إعلان تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان | الحرة

[17] Lebanese Presidency on X: “رئيس الجمهورية شدّد على ان مجلس الوزراء يملك مرجعية القرار، وليس الاحزاب ولا الطوائف، وقال: “نحن هنا لاتخاذ القرارات وليس للتعطيل، ونحن تحت انظار الجميع في هذا السياق”. وتمنى على الوزراء الالتزام بسرية المداولات داخل الجلسة. https://t.co/Vv9Nx3gZg7″ / X

[18] عددهم 35 وبينهم قيادات بارزة.. “حزب الله” يعلن أسماء ضحاياه من القادة – RT Arabic

[19] نعيم قاسم: على الدولة اللبنانية تحمل مسؤولية ما هدمته إسرائيل واستخدام علاقتها الدبلوماسية لإجبار العدو على الإنسحاب – Lebanon News

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى