حولَ اتفاق وَقف إطلاق النار في لبنان
الدكتور سعود المولى*
بعد أكثر من عام على الحرب التي اشتدت بشكلٍ كبير في الأشهر الأخيرة، اتفق “حزب الله” وإسرائيل على وقف إطلاق النار برعاية أميركية-فرنسية. لكن الاتفاق الهشّ خرقته بالفعل انتهاكات جرى التبليغ عنها من الطرفين. فما هي أهمية هذه الصفقة ومتانتها، فضلًا عن آثارها على لبنان والمنطقة على نطاق أوسع.
لماذا أمكن تحقيق اتفاق جنوب لبنان اليوم؟
أولًا: الإنهاك والعجز لدى الطرفين عن تحقيق نصر كبير أو حاسم. فالهدف الرئيس لبنيامين نتينياهو والذي وعد به نفسه وشعبه، كان التصفية النهائية لوجود “حزب الله” (و”حماس” بالطبع). وقد تعزّزَ الوهمُ بتحقيق هذا الانتصار الكبير نتيجة القضاء على النخبة القائدة في الحزب (2 أمناء عامين، وعدد كبير من قادة الوحدات العسكرية والأمنية، ناهيك عن معظم أعضاء المجلس الجهادي وبعض أعضاء مجلس شورى القرار). وقد استخدم نتنياهو أسلوب حرب غزة، أي التطهير الاثني وتدمير العمران والبشر، من خلال القصف الوحشي على بيروت وضاحيتها الجنوبية ومدن وقرى الجنوب والبقاع (خصوصًا النبطية وصور والخيام وبعلبك) وصولًا حتى إلى جبل لبنان وشماله والمخيمات الفلسطينية، ناهيك عن التدمير الكامل لشريط حدودي من القرى بعمق 2-3 كلم.
ثانيًا: الوضع الإسرائيلي الداخلي، والعبء الكبير على قوات الاحتياط وعلى الاقتصاد بعد تراجُع تصنيفه الائتماني خلال الحرب. وقد برزت تسريبات إسرائيلية قبل بضعة أشهر، عن النقص في المعدات والأسلحة والذخائر. كما برز موضوع تجميد شحنات أسلحة في الولايات المتحدة، كالقنابل الثقيلة والأدوات الهندسية الثقيلة. كما تزايد حجم الخسائر الإسرائيلية ، خصوصًا في قوات النخبة المقاتلة مثل لواء غولاني، ومعها تزايدت حالة الرعب والنزوح في المدن والمستوطنات الكبيرة كما في تل أبيب وحيفا ونهاريا وكريات شمونة، والخوف من حرب استنزاف طويلة تغرق الجيش في الوحل اللبناني خلال الشتاء القريب. هذا وتفاقمت حدة التناقضات الداخلية وضغوط أهالي الأسرى والمحتجزين، ومعها تزايد التململ في أوساط الجيش والمخابرات الرافضة لسياسة نتنياهو خصوصًا بعد إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت.
ثالثًا: تلاقي الضغوط الأميركية مع الضغوط الإيرانية لوقف إطلاق النار، بسبب شعور طهران بضرورة القيام بشيء لتجنّب الضربات الإسرائيلية-الأميركية المقبلة، وبالمقابل شعور أميركا بخطورة التململ في الموقف العربي والإسلامي الرسمي كما عبرت عنه قمة الرياض العربية الإسلامية، وموقف قطر في الانسحاب من الوساطة في غزة، ومن ثم توقف جهود التطبيع مع السعودية بعد تكرر تصريحات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ووزير خارجيته عن أنه لا تطبيع قبل قيام حل الدولتين. والمعلوم أنَّ إدارة جو بايدن ضغطت في مسألة عدم منح إسرائيل المزيد من الأسلحة والذخائر، وصولًا إلى تمرير قرار مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار، ما ظهر وكأنه تحوُّلٌ في الموقف الأميركي تجاه إسرائيل. جاء ذلك معطوفًا على قرار المحكمة الجنائية الدولية تجاه نتنياهو وغالانت، ما جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي يحتاج إلى ضمانات أميركية لا بل وحتى فرنسية لحمايته من المحكمة. ولعل الحديث عن صفقة بين ماكرون ونتنياهو بخصوص عدم رفع الحصانة عنه مقابل قبوله الاتفاق يشرح هذه النقطة.
إيجابيات الاتفاق إسرائيليًا:
- يسمح الاتفاق لنتنياهو بالتركيز على إنهاء مقاومة غزة، والاستعداد لحملة ضد إيران بدأ يعمل لها مع الرئيس الأميركي المُنتَخب دونالد ترامب. فضَربُ “وحدة الساحات” الذي خاض الحزب الحرب على أساسها،، يُطلقُ يدا نتنياهو في فرض صفقة تبادل في غزة بمساعدة إدارة بايدن المستعجلة لإنجاز هذه الصفقة، بدليل مشاوراتها المكثفة أخيرًا مع مصر وقطر وتركيا حول الموضوع.
- حققت إسرائيل غالبية الأهداف التي لم يكن “حزب الله” مستعدًا للتنازل عنها على مدار عقدين من الزمن وعام من الحرب. فإضافة إلى فصل الساحات، كان إبعاد الحزب عن الحدود إلى ما وراء الليطاني وتفكيك بنيته العسكرية والأمنية، عبر فرض تطبيق القرار 1701 بكل ما فيه من مندرجات، وقد حقق الاتفاق هذه الأهداف.
- يُضافُ إلى ذلك السماح بـ”حرّية الحركة لضبط الاتفاق بالقوة”، خصوصًا من خلال التفاهمات الجانبية مع الولايات المتحدة. فالاتفاق منح إسرائيل الشرعية و”الغطاء الأميركي والدولي”، لتفكيك البنى العسكرية ل”حزب الله” إن حاول إقامتها من جديد في جنوب نهر الليطاني. كما شكل منظومة مراقبة دولية بقيادة الولايات المتحدة هي اعتداء فاضح على السيادة اللبنانية.
- كما إنَّ الاتفاق يسمح بعودة سكان المستوطنات في الشمال إلى منازلهم: وهذا بعد التدمير الشامل والاحتلال الفعلي لشريط حدودي لبناني على طول خط القرى الأول، وإلى حدٍ ما الخط الثاني.
إيجابيات الاتفاق من بالنسبة إلى “حزب الله”:
- حفظ الوجود والبقاء، فالاتفاق بصيغته وتوقيته لا يلبي كل الطموحات الإسرائيلية، إذ كانت اسرائيل تريد انتصارًا ساحقًا على “حزب الله”، وتغيير الوقائع العسكرية والأمنية والسياسية في لبنان لا بل في الشرق الأوسط، وهو ما لم يتحقق.
- إنه اتفاقٌ تحت سقف القرار 1701، أي أنه يستعيد تجربة الاتفاق الذي أنهى حرب تموز (يوليو) 2006. وعمليًا فإنَّ تطبيق أي اتفاق سيكون خاضعًا لموازين القوى السياسية داخليًا وخارجيًا، مع الإشارة إلى أنَّ الحزب سيبقى مُصرًّا على تكرار تجربة العام 2006.
- هناكَ أجزاءٌ من الاتفاق غير واضحة ما يترك الأمر للتوقّعات المُتضاربة، خصوصًا تفاصيل خطة انتشار الجيش وخطة انسحاب القوات الإسرائيلية (خلال 60 يومًا)، وما سيفعله الإسرائيليون في المرحلة اللاحقة للانسحاب مع تصريحاتهم بإطلاق يدهم للعمل كلما ارتَؤوا. علمًا أنَّ كل التصريحات الأميركية والدولية حول حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية، صدر ما يماثلها بعد حرب تموز (يوليو) 2006، ولكنها لم تجد طريقها إلى التطبيق، وذلك بفعل تفاهمات دولية جانبية، خصوصًا بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، أسهمت في الآلية التي طبق الاتفاق بموجبها والتي أعادت سيطرة “حزب الله” ليس فقط على الجنوب بل على القرار السياسي الحكومي والبرلماني. ويراهن الحزب على تفاهمات أميركية-إيرانية جديدة في هذا المجال.
- على الرُغم من الخسائر الكبيرة التي مُني بها “حزب الله” منذ عملية تفجير وسائل “النداء” واللاسلكي، والثمن الكبير الذي دفعه المدنيون في أرواحهم وممتلكاتهم ، بقي العمل العسكري للحزب قويًا ، أكان عبر الصواريخ والمُسيَّرات، أم عبر المقاومة في نقاطٍ مفصلية في الجنوب مثل الخيام وبنت جبيل. كما ظهر أنَّ الحزب لا يزال يتمتع بقدرات عسكرية كبيرة وصواريخ بعيدة المدى ومسيَّرات تطاول عمق إسرائيل ويمكن إطلاقها من البقاع، ما يعني أن إسرائيل لم تتمكن من إزالة تهديدات الحزب وإنهاء قوته.
- إنَّ الانتصار النهائي لن يتحقق من دون ضربة قوية لإيران. ولذلك لا يمكن القول أنَّ الحزب انهزم تمامًا كما لا يمكن القول أنه انتصر تمامًا، طالما لم يحسم وضع إيران والملف النووي.
في الوضع الداخلي اللبناني:
مصير سلاح “حزب الله” خارج منطقة الليطاني هو ما يشغل القوى اللبنانية المختلفة وعلى رأسها القوى المعارضة في الوسطين السنّي والمسيحي، وهي تدعو صراحة إلى “الانتهاء” من سلاح “حزب الله” من خلال تطبيق القرار 1559 كأحد مندرجات الـ1701. وتعتبر هذه القوى أنَّ ثمّةَ سوابق تُبرّرُ تخوّفها حين لم يلتزم “حزب الله” بتطبيق القرار 1701 على الرُغم من موافقته عليه بعد حرب 2006.
لكن المُختَلِف اليوم، بحسب مصادر المعارضة اللبنانية، “تشكيل لجنة مراقبة دولية لتطبيق القرار1701”. من جهة أخرى سيكون على أيِّ رئيس جمهورية جديد ورئيس حكومة جديد الالتزام بسقفٍ دولي جديد، أي تنفيذ القرارات 1559 و1680 و1701 وتطبيق اتفاق الطائف ببنوده ذات الصلة أي اتفاق الهدنة. كما إنه صار اليوم بالإمكان انتخاب رئيس للجمهورية، شرط أن يكون “رئيسًا بمسؤوليات تأسيسية، يحدد دور لبنان وعلاقاته، ويمنع التدخلات الخارجية ولا سيما الإيرانية في شؤون لبنان، ورئيس حكومة ينسجم مع هذا الخط، يرسم ورئيس الجمهورية خريطة طريق للوصول إلى بلد خال من السلاح والخروج من دوامة الحروب العبثية” (بحسب أوساط حزبي “القوات اللبنانية” و”الكتائب”). كما إنَّ جبران باسيل، رئيس “التيار الوطني الحر”، الحليف السابق ل”حزب الله”، دعا إلى “التوافق الوطني على استراتيجية دفاعية تقودها الدولة فقط برئاسة رئيس للجمهورية ورئيس حكومة وحكومة ومجلس نواب يتوافقون جميعًا على تحييد لبنان عن الصراعات محصنين لبنان بضمانات الخارج“. هذا ناهيك عن المواقف المنسقة التي عبر عنها لقاءات وتصريحات الثلاثي بري-ميقاتي-جنبلاط، والتي ركزت على الدور الدولي في رعاية الاتفاق وتطبيق القرار 1701.
والجديد اليوم وجود موقف لبناني شعبي عام يدعو إلى الانتهاء من جحيم هذه الحروب والتفكير بمستقبل لبنان، بعد ثبات وقوف لبنان لوحده في هذه المحنة وعدم نجدة الأشقاء له، خصوصًا في سوريا وإيران، التي يجمعه بها شعارات “وحدة الساحات” و”وحدة المسار والمصير”، واتفاقيات دفاع وأمن مشترك.
في الختام فإنَّ ضرورة إعادة تشكيل السلطة عبر انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإعادة إعمار ما تهدم في الجنوب والبقاع وبيروت والضاحية، ستحتاج إلى تقاطعات وتفاهمات أميركية-إيرانية-فرنسية مع دول عربية عديدة حول المرحلة المقبلة لبنانيًا. إذ لا يمكن للبنان أن ينهض من دون مثل هذه التفاهمات الخارجية والداخلية؛ ومن دون توفير هذه الحصانة الداخلية، سيشهد لبنان الكثير من التوترات والاضطرابات. والحال أن “حزب الله” لا يزال قوة كبيرة على المستوى الشيعي، ولا يزال يحتفظ ليس فقط بقواعد كبيرة في الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع ، إنما أيضًا بعمق استراتيجي لم ينقطع في سوريا وإيران، ما لم يحصل تطورات على هاتين الجبهتين. ولذلك يرى الكثيرون أن الأمور تتوقف على نتائج الحرب الراهنة الدائرة في ريف حلب وإدلب وصولًا إلى حماه، وعلى مدى ونوعية التدخل الروسي والإيراني في سوريا، وفي الأساس على سياسة الرئيس ترامب إزاء الملف النووي الإيراني والوضع في غزة.
- الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.
- يَصدُرُ هذا المقال في “اسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “أفكار”، مدوّنة مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية (قطر).